هواء..طويل الأجنحة لـ"عُلَّيَّة الإدريسيّ" (2-4)

الشريف أيت البشير – المغرب


تعمل الشاعرة عُلَيَّة الإدريسيّ على احتفار مبدأ التعالق بين هذه المكونات لفهم الأسباب ورتقها بالنتائج.وهو ما يجعل المتلقي يفهم بالضبط الجامع بين القطار مثلا والبرتقالة المحدد في العوالم التي يمكن أن يصيرا إليها؛ذلك أن القطار يشير إلى التحول في المكان،أما البرتقالة فترتبط بما تجود به من حياة ومن ذوق رفيع يمنح نكهة الحياة للطبيعة في الذوق واللون والعافية.وإذا كان القطار يعتصر المسافة فإن البرتقالة تعتصر الحياة،فيمنحان معا آفاقا بديلة مترعة على الإحتمال واللايحد...قد يكون غموضا يترجم الإحساس بالإغتراب تجاه الوجود فيكون لذلك أثره في التعبير الذي ينكفئ على الذات في استقراء وجعها وحيرتها.وتلعثمها المجنون بمفرداته ،وبالتالي تأثيثه باللمسة الخاصة،اللمسة اللاتفسر مثل وضع حبة ماء على حبل.أو احتساء قهوة في عجلة أو مصادفة المخاطب ميتا دون أن ينتبه.تقول الشاعرة:
يمكنني وضع حبة ماء
 على حبل.
احتساء قهوة
في عجلة.
قد أصادفك ميتا
فلا تنتبه...
تكتب هذه العبارات بكامل الجنون المنجرّ إلى نزعتي س.دالي وف.غوخ؟ وكأن الأمر يتعلق بعلامات مؤسسة لمساحة اللوحة ممهورة بالحس السوريالي الجارف.فالإنجازات المعلنة هنا محفوفة بكل ما هو أخرق وغير منطقي تصبح له نكهته في لامنطقه،هذا يكون مدسوسا في لاوعي الشخصية،أي كامنا،إذ تعمل على تصريفه حين وجود فرصة ،وقد تحققت هنا في حالة الشاعرة،وكأنها تترجم مكبوتات اللاشعور التي تبقى سجينة الظل والصمت والعزلة صادرتها الضمائر،صادرتها الدوكسا...فمن منا لا يجد لذة في وضع قطرة ماء أو حبة سيان على حبل.ومن منا لا يحس بمتعته وهو يعبث بالعقل كأن يحتسي قهوته في عجلة حيث اللفظ هنا لايحيل على السرعة وإنما على ما هو صناعي. ومن منا لايحب أن يختلط بالناس دون أن يكترثوا به،أن يكونوا مذهولين أمام ذواتهم فلا ينتبهوا إليه.
وعلى اعتبار استحالة ذلك واستعصاء تحقيقه تجنح الشاعرة إلى النفس وتستقرئ الإمكان في نزعة أورفوسية مفعمة بالكآبة واليأس جراء ما حدث على خلفية ضياع يوريديس،وكأنها تشكك في الأمل الذي افترعت به قولها الشعري في البداية.لتعادل ذات الشاعرة الحبيبة المفقودة،فتصير هي وحدها الإثنين معا:الذات والموضوع،أي أورفيوس ويوريديس.حيث بكائيته هو موقّعة بالنفخ على الناي أودعه النفس فتخلق الإيقاع الحزين الأبدي،وبكائيتها هي،في الغياب،موقّعة بنشيج المزاريب في لاوعي الجملة وقّعته الأمطار التي لم تكن أبدا،فامّحلت النفس،عن طريق التكرار المقرون بالنفي؛(لا أمطر) في ثلاث صياغات تلعب دور تأجيج الحنق والدفع بالتعبير إلى ذرى الألم والإحساس بفجيعة الخواء والغياب لعله العدم.الصيغتان الأوليتان تراكمان صور السقوط،أما الثالثة فتوقّعه بكامل الفجيعة القيامية،تقول الشاعرة:
في الصباح أعد شتاء
ولا أمطر.
(.............)
حفيدة هذا الغرق
أنا
ولاأمطر...
وإذا كان السياب حين تضعيفه للمطر في رائعته (أنشودة المطر) يدس التعبيرية التي تنشد الاجتفاف والقحط كمدخل لإنتاج الحركة والاحتجاج نحو حرية حقيقية وكرامة اجتماعية تضمن الانتساب إلى الوطن والاستفادة من نعمائه،فإن التضعيف هنا مع علية الإدريسي قد يقلب هذه الدلالة ما دام لفظ المطر مقرون بالنفي لتنتج قيمة الإيجاب.أي الرواء والخصوبة والاخضرار.هل يمكن لذلك أن يكون دعوة مبطّنة منها للعودة إلى التجربة التموزية،تجعلها متحسسة لسيرة عشتار المنتصرة للحياة في عملية انفلات واضحة من العوالم السفلى،أي من الهاديس؟ قد يكون ذلك واردا مادام السياب لا يزال يمارس حضوره وأبوته الرمزيين على المشهد الشعري المعاصر.وإذا كان ذلك كذلك فكأن علية الإدريسي قد استجابت لدعوة محمود درويش حين صاح على خلفية فجيعة العراق الجديد :(فكن عراقيا كي تكون شاعرا يا صاحبي)،في تمجيد واضح للسياب الموصول بآل سومروبأيتامهم على حد توصيف بنعيسى بوحمالة.
هي تصاديات وتطريسات حاضرة في لاوعي قصيدة علية الإدريسي بطعم مختلف هو حتما على المقاس المغربي في استقراء الأنفس والأحوال...وفي تنسّم الأهواء لتصبح العبارة مضمّخة بتعبيرية وجودية تعمل على توريط الذات في مزيد من الوعي بحالاتها وهو ما يمكن أن يترجم في شكل كتابة(أنا)في سطر منعزل وفي الوسط،كأنها ذاك البطل المتمترس المواجه للسقوط المترجم في لفظ (الغرق)بغية تحديد الرؤية للعالم المؤكدة عن طريق الوعي الحاد بالوجود تنتقل الذات معه من الراهن ومن القائم والمؤكد إلى الممكن والمحلوم به والمترجم بفعل الصراخ وما يرتبط به من تعبير عن حيازة الحياة هي قبض اليد مسكون بالحس الثيولوجي كحالة المتصوف الذي يتخذ الله رفيقا في سفره،في حلمه وأمله في العوالم التي يرتادها:
كأني أرسل الله إلى طريقي
وباب الحائط أقفله
بالصراخ.
تدشن الشاعرة علية الإدريسي مفتتح "مقاطعها"الشعرية بالتوظيف اللافت "للأنا "الدالة على الحضور،وعلى أنها محور الإبداع في رصد عوالمها،آلامها وإخفاقاتها ثم انتصاراتها وآمالها...وإن كان هذا الضمير يكون للشخص حسب توصيف "بنفنست"،فا نحيازيته للمتلقي تكون قوية؛إنه عمل يورّطه  في تلبّس حالات الشاعرة.وكأن كتابة الشعربمثابة النهر؛تكون قراءة الأول معادلة للسباحة في الثاني.فلسنا تماما قبل القراءة نكون بعدها؛إذ تحصل للمتلقي حشرجة في الصوت.كما تحصل له الدهشة،لتردم الفواصل بين الأسئلة والأجوبة،بين الأسباب والنتائج...لعل  المتلقي ينجز بها سفرا صوفيا مفعما بإحساس الإغتراب.ولنعمل الآن على استخراج هذه الحالات:
أنا القطار.شجرة أنا.أنا هنا...تقول أياد يسرى.أنا الخريف في شارع الرباط.أنا ورق أصفر.أنا هنا...تقول الحقيبة.أنا القطار السريع.وأنا معي...لك يدي.أنا الخريف.ابن هذا الجبل.أنا السيء الحظ.
إذ يلاحظ أولا أن هذه النزعة قوية الحضور في الجزء الثاني بأربع مرات فقط.قد يكون مذاقها أولا حرّيفا،في حين ثانيا يكون أقل توتّرا.هل يمكن لذلك أن يكون له من أثر أثناء تعلق الذات بسلفادور دالي أولا،وبفان غوخ ثانيا؟
معلوم أن النزعة الذاتية قد تترجم الاعتزازبها وإعلائها كمدخل للتشبث بالحياة،على عكسها تماما تكون عملية إهمالها وعدم الاكتراث بها والعمل على تدميرها.الشيء الذي يعني النظر إلى تجربة "فان غوخ"بالشجاعة.لقد كان هذا الفنان شجاعا حين استطاع الانتصار على نزعته الأنانية والانفلات من عبوديتها له.لم يعد هناك اعتبار ل(أناه) في قاموس عقله الباطن،لذا اختار الرحيل فكان الانتحار به يحيد عن الألم ظانّا الراحة في العدم.قد تكون هذه المرجعية أرخت بظلالها على تجربة الكتابة الشعرية لدى علية الإدريسي،فقللت من فداحة الاعتزاز بالذات ومحورة القصيدة في جزئها الثاني على الأنا،في إطار نوع من الاستبدال للعالم الأول المبني على الصراخ والاحتجاج بالصمت والعزلة والنسيان باعتبارهما يترجمان الرغبة في الذهاب إلى الخريف...كزمن محتفى به في الجزء الثاني المترع على العوالم المجنونة الموقّعة بجنون أكبر؛هو جنون ف.غوخ.
هذا بالإضافة إلى حضور ذات المتكلم بشكل إمبريالي في غالبية جمل هذا الديوان سواء بواسطة الياء أوبتاء الفعل...الشيء الذي يؤكد على الحضور اللافت لهذه الغنائية المغلّفة بنزعة إنشادية مكينة.
وبنزعة إيروتيكية جارفة يمنح نص ظهرالغلاف نفسه للمتلقي بتقنية الموازنة،بالنظر إلى إحالة الضميرالمترجم لنزعة تواصلية حميمية _حواسية،مدفوعة في اتجاه ذرى اللذة الممهّرة بالهيدونية عن طريق التعبير عن الذات كموضوع للغواية حينا،وأخرى كفاعل في إنتاجها.والعكس بالعكس بالنسبة للمخاطبة عبر شعرنة الذات في تداخلها الدلالي مع شجر البلوط.ولعل خاصية التقشير وما تستدعيه من تجاوز الحالات الحافّة والوصول إلى الغور،إلى اللامرئي والكامن هو ما يجود بتلك النزعة الإيروتيكية،حيث لذة البلوط تكمن في العمق أي ما تحت القشرة.وكذلك اللذة والإيروتيك تكمنان في العمق وفي الباطن أو على الأقل يعملان على إنتاجها؛إذ في الحب تينع الصبوات_على حد تعبير الشاعرة إكرام عبدي_وتثمر الذوات وتزهر الفلوات وتنتفض/تنتصب الحواس مترجمة ذلك في كل علامة ناتئة باحت بأنوثتها حينا،وأخرى بذكورتها في عملية قلب واستبدال المواقع.إن الشجرة تمنح الغلال، تمنح الثمار. وكذلك المرأة والرجل سيان،سواء كان ذلك حسيا أم مجردا؛فالعلاقة المبنية على لغة الجسد تترك أثرا مزدوجا،أو على الأقل أحدهما،أو لاأحد؟ تترك أثرا،فيه التجلي والامتداد في الوجود،وفيه الإحساس كحالة سيكولوجية كامنة...تقول الشاعرة:
(...)إلى شجرك
شجر البلوط
سأسبقك
كي تقشرني...
إلى شجري
شجر البلوط
سأسبقني
كي أقشرك(...)
ما من شك في أن هذا المقطع الشعري غير المجتزأ من المتن ما دام ليس جزءا منه أوعلى الأقل لا يمكن العثور عليه بين دفتي الكتاب،هوكل ونظام وتعبير عن المستقبل،يكتسي إمكانية تحقيق معادلة النص/الديوان.ومن هنا منطق الموازنة أيضا،كخاصية شعرية تلعب دورا إيقاعيا بديلا للتكرار الخارجي/البرّاني كظاهرة إيقاعية تقليدية.هنا مع تجربة علية الإدريسي يكون الإيقاع منتزعا من عمق الدال،وقائما في الآن نفسه على توتر الجملتين،على اعتبار أن جملة الخطاب:إلى شجرك...سأسبقك كي تقشرني،توازي جملة الذات:إلى شجري...سأسبقني كي أقشرك.توزيع يأخذ في عين الاعتبارمبدأ الفاعلية ومركزها.يكون هذا إضافة إلى سلطة التكرير لبنية صوتية مشدودة إلى أخرى  تحقق للمقطع هارمونية أكيدة وتنتج الإحساس بالإغواء والتحريض عليه. يتعلق الأمربالبنية الصوتية التالية بالنظر إلى إحصائيتها:(ش،ر:ست مرات .ك:خمس مرات.ج،ب،س:أربع مرات ثم أخيرا صوت:ط:مرتين).
وبالنظر إلى الصفات المميزة لها فونيتكيا فإن الأمر يتعلق بالجمع بين المهموس و المجهور في عملية إيحائية إلى الالتذاذ المتناوس بين التجلي والكمون...بين الصعود و الهبوط،بين مبدأي الفاعلية والمفعولية.
وكأن الشاعرة علية الإدريسي هنا لاتبحث عن النظام أو النسق،وإنما تبحث عن التشظّي وتدفع في اتجاه المنفلت والمسافر في المفاجئ وفي رهبة المنسي لعله موت الإيروس أو مكره.ذاك ما يفسر ابتعادها عن النموذج أو المثال الذي هو هناك في الذرى غير متعين كأنه الهيولى،والعمل على تمجيد الجسد الذي يهتم به النسيان حين كان يلعب دور المحوّل،يقول "برنار نويل":
"تحلم الذاكرة بكثافة مثالية(...)أما النسيان فيدفع إلى اعتبار الجسد هو وحده المحوّل".

تعليق عبر الفيس بوك