أبحاث ريتشارد ثالر دفعت بريطانيا إلى تأسيس "وحدة للتنبيه" لتغيير سلوك المستهلكين

جائزة نوبل في الاقتصاد تشجع العالم على الانحياز للادخار على حساب "العواطف"

 

  • الأستاذ الأمريكي بحث في أسباب "لا عقلانية" خطط صرف الأموال على مدى 40 عامًا
  • الصراع الداخلي "العقلانية" و"العواطف" سبب فشل مخططات التوفير للتقاعد
  • الرؤى التي طرحها ثالر تساعد الناس على اكتشاف أساليب التسويق وتجنب القرارات الاقتصادية السيئة

 

 

الوكالات – الرؤية

 

يفترض علم الاقتصاد التقليدي أنّ المستهلكين يتصفون بالسعي الدائم للحصول على أكبر منفعة ويتصرفون وفقا لمعايير عقلانية دون أي أثر للمشاعر الإنسانية، لكن الأمريكي ريتشارد ثالر رسّخ لمفهوم مغاير تماما أسس به ما عرف بعلم الاقتصاد السلوكي الذي يرى أنّ المستهلكين لا يتصرّفون بعقلانية عند التعامل مع الأموال وأنّ المفهوم التقليدي لـ"المستهلك الرشيد" صار محض وهم، وقد استطاع ثالر بفضل أبحاث تمتد لأكثر من 40 عاما أن يقدم تحليلات أكثر واقعيّة لكيفية تفكير النّاس وتصرفهم عند اتخاذ القرارات الاقتصادية، ووضع إطارًا للواقعية النفسية فى تحليلات صنع القرار الاقتصادي للدول والمؤسسات، من خلال استكشاف عواقب العقلانية المحدودة، والتفضيلات الاجتماعية، ونقص القدرة على ضبط النفس لدى المستهلك.. لذلك سخر ثالر نفسه الذي يبلغ من العمر 72 عاما عند الإجابة عن سؤال حول خططه لصرف قيمة جائزة نوبل التي حصل عليها مؤخرًا بقيمة 1.1 مليون دولار، وذلك بقوله "سأحاول إنفاقها بطريقة غير عقلانية قدر الإمكان"!

ويرى الأستاذ الأمريكي أنّ المستهلكين لديهم صراع داخلي دائم بين الخطط طويلة الأجل (العقلانية)، والرغبات فى المدى القصير (العواطف)، وهو ما يتسبب أحيانا في فشل المخططات الخاصة بالتقاعد أو التوفير. وسلطت أبحاث ثالر الضوء بشكل خاص على سبل "تنبيه أو تحفيز" الأشخاص على وضع المزيد من الخطط على المدى الطويل مثل الإدخار لمعاشات التقاعد.  وكان هناك أيضًا ظهور مقتضب للبروفيسور ثالر في الفيلم الأمريكي "ذا بيغ شورت" أوضح خلاله الأدوات المالية المُعقدة التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 و2008.

وقد دفعت أبحاث البروفيسور ثالر بريطانيا إلى تأسيس "وحدة للتنبيه" خلال ولاية رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون. وجرى إنشاء هذه الوحدة في عام 2010 للتوصل إلى سبل إبداعيّة لتغيير السلوك العام ولديها مكاتب في بريطانيا ونيويورك وسنغافورة وسيدني.

وقد منحت الأكاديميّة الملكية السويدية للعلوم المسؤولة عن جائزة "نوبل" ريتشارد ثالر جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهمته في تأسيس "حقل جديد نسبيا سد الفجوة بين الاقتصاد وعلم النفس"، إذ حاول ثالر على مدار رحلته العلمية التشكيك فى النظرية التي تسلم بأنّ جميع الأفراد في الاقتصاد "أنانيون وعقلانيون"، حيث يرى أنّ بعض جوانب التعاملات الاقتصادية أحيانا ما تكون إنسانية.

وقال أعضاء لجنة نوبل، المعنية باختيار الفائزين بالجائزة المرموقة، إن ثالر أظهر كيف أن "التنبيه"، وهو المصطلح الذي صاغه ثالر بنفسه، يمكن أن يساعد الأشخاص في السيطرة على أنفسهم بطريقة أفضل. وقال بير سترومبيرغ، أحد أعضاء لجنة تحكيم جائزة نوبل، إنّ أبحاث البروفيسور ثالر ألقت الضوء على تأثير الجانب النفسي على القرارات الاقتصادية. وكانت النتائج التي توصل إليها ريتشارد ثالر مصدر إلهام للعديد من الباحثين الآخرين الذين حذوا حذوه، وقد مهدت الطريق أمام مجال جديد للاقتصاد نُطلق عليه الاقتصاد السلوكي". وأوضحت اللجنة أنّ الرؤى التي طرحها ثالر ساعدت النّاس على التعرف على أساليب التسويق وتجنب القرارات الاقتصادية السيئة.  

ولقب ريتشارد ثالر بـ"أبو الاقتصاد السلوكي"، وساهم بكتب كثيرة في هذا المجال، وتوصل إلى نظرية تُعرف بـ nudge، والتي عبر عنها بعد ذلك في كتاب بالاسم نفسه أشاد به كثير من السياسيين ورجال الاقتصاد حول العالم، ويبحث الأسباب التي تدفع الأشخاص للاختيارات السيئة أو غير العقلانية في قراراتهم الاقتصادية، وتمكن ثالر من خلق فهم سهل للسيناريوهات التي توضح كيفية النقاش الذي يحدث غالبًا بين السلوك الإنساني والمنطق الاقتصادي التقليدي.

ويرى ثالر إنّ الكثير من الأنظمة الاقتصادية تفترض أنّ الأفراد عقلانيين وتحت السيطرة وغير عاطفيين، ولكني اعتقدت طوال 40 أو 50 عامًا أنّ الاقتصاديين يدرسون أشخاصا خياليين. ويرى أنّ هناك ما يُعرف بـ"المحاسبة العقلية"، والتي تعتقد أنّه في الممارسات العملية لا يتعامل الناس بتلك الطريقة التقليدية، فمفهوم المال بالنسبة لشخص يختلف عن مفهومه لشخص آخر، فعند شخص ما يُترجم المال لاستخدامات في السكن وعند شخص آخر في السفر وهكذا.

ورغم ذلك فقد نالت أفكار ثالر حظها من الانتقاد بدعوى أنّها "أبوية مفرطة"، كما تمّ وصفها بأنّها أفكار "نيوليبرالية" من جانب اليسار أي تميل إلى تأييد الرأسمالية المطلقة، وذلك لأنّها تعتمد على التدخل الفردي بدلا من التدخل العلني للدولة، لذلك يؤكّد ثالر إنّه ناضل من أجل إعادة الانضباط الأكاديمي للاقتصاد، موضحا كيفية مساهمة التحليل الاقتصادي السلوكي في تغيير "طريقة تفكيرنا في كل شيء من الشؤون المالية للأسر المعيشية إلى مسودة اتحاد كرة القدم الأمريكي".

ويعد كتاب صناعة الاقتصاد السلوكي (nudge) الصادر في 2015، وكذلك كتاب تطور الصحة والثروة والاقتصاد الصادر في 2008 أبرز كتب ثالر ضمن الكتب الأكثر مبيعا حول العالم. وقد شارك ثالر في تأليف كتاب "صناعة الاقتصاد السلوكي" مع أستاذ الحقوق فى كلية هارفارد كاس سونشتاين، ويهدف الكتاب إلى التوصل لإمكانية استخدام مفاهيم الاقتصاد السلوكي لمعالجة العديد من المشاكل الرئيسية للمجتمع والتأثير على السياسة العامة، وتم اختياره وقتها كأفضل كتاب في العام من جانب مجلة "الإيكونومست" و"فاينانشال تايمز".

كما كان لثالر كتاب في الاقتصاد السلوكي تحت عنوان تطور التمويل السلكي صدر فى عام 1991، ونشرت أعماله كذلك في مجلة الاقتصاد الأمريكي ومجلة الاقتصاد السياسي وصحيفة المالية.

وحصل"ريتشارد ثالر على درجة البكالوريوس من جامعة كيس ويسترن ريزيرف فى عام 1967، ثم حصل على درجة الماجستير عام 1970 من جامعة "روتشستر"، ثم الدكتوراه فى عام 1974. ويعمل حاليا أستاذًا للاقتصاد بجامعة شيكاغو منذ عام 1995، لكنه قبل ذلك عمل كأستاذ زائر فى الجامعة البريطانية الكولومبية، ومدرسة "سلون للإدارة" في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا"، ومؤسسة "راسيل ساجا"، ومركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية في جامعة ستانفورد. وتم انتخاب "ثالر" في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم في عام 2000. وفي 2015 اختارت وكالة "بلومبرج" أبو الاقتصاد السلوكي ضمن أكثر 50 شخصيّة الأكثر تأثيرا في الناس، كما شغل فى العام نفسه رئيسًا للجمعية الاقتصادية الأمريكية.

ويشار إلى أنّ جائزة نوبل للاقتصاد هي آخر جائزة لنوبل يُعلن عنها هذا العام بعد الإعلان عن جميع الجوائز الأخرى في الطب والفيزياء والكيمياء والأدب والسلام في الأسبوع الماضي. وهي الوحيدة التي لم يؤسسها ألفريد نوبل، مخترع الديناميت، وأطلقت الجائزة، التي تعرف رسميا باسم جائزة سفيرجيس ريكسبانك في العلوم الاقتصادية، عام 1968 لإحياء ذكرى ألفريد نوبل.

وقد هيمنت الولايات المتحدة حتى الآن على جائزة نوبل للاقتصاد إذ أنّ نصف الحائزين عليها منذ انطلاقها هم أمريكيون. وفاز خبراء أمريكيون بجائزة نوبل للاقتصاد أو اقتسموها خلال الفترة من عام 2000 وحتى عام 2013.  وفاز الأمريكي المولود في بريطانيا أوليفر هارت والفنلندي الأمريكي بنغيت هولمستروم بالجائزة العام الماضي نظرًا لأبحاثهما في "نظرية العقد" التي تشمل نطاق تطبيق واسع من الإفلاس وحتى القانون الدستوري.

 

تعليق عبر الفيس بوك