عورات السَّرد الروائي

الناقد/ عبد الجواد خفاجي – مصر

 
....................................
إنّ أسوأ أنواع السرد وأكثره إملالاً، ذلك الذي يجافي الدراما ويعطل الحدث كرامة للوصف الزائد للمكان قبل الحدث، كنوع من التمهيد الممل، الذي يفتقد إلى مبررات مثوله بمعزل عن الحدث، أو الاهتمام بالتفاصيل التافهة، أو الاستغراق في وصف البيئة والعادات والتقاليد، والمهن والحرف، ما اندثر منها وما لم يندثر بعد، وكل ذلك لا يقتضيه الحدث ولا يتطلبه.
السرد في خدمة الدراما، بما تعنيه من حدث أو صراع، وما يصاحب ذلك من حركة في الزمان والمكان.. وأي تعطيل للحدث والخروج إلى رغبات أخرى من قبيل الإخلاص للبيئة والتباكي على ماضيها وما اندثر فيها من قيم ومهن، وشرح كيف تتم، وذكر العادات والتقاليد، وسيرة الإنسان والأحباب، بشكل مباشر، ومسهب ومنفصل عن الحدث أو حتى غير منفصل، يعد خروجا عن مقتضيات الدراما والفن، وأسلوب السرد الأدبي. وهذا التدمير للسرد يتأتى بطرق عدة، كلها ضد الفن، نذكر منها:
أولا - الاعتماد على السارد (الراوي) الدكتاتور، الثرثار، وهو نوع من الساردين التقليديين، يبدو عليما بكل شيء، أو هكذا يعطي لنفسه هذا الحق، وهو وأكبر من كل الشخوص، ويمارس الرؤية من الخلف، ومن ثم يسمح لنفسه بالتعليق على الحدث وتصميت الشخوص والحد من فعاليتهم، والحديث بدلا عنهم، ونقد تصرفاتهم وأفعالهم والتعليق عليها والتفلسف حولها، أو السخرية منها، أو استثنائهم والانصراف عنهم إلى وصف المكان أو البيئة أو استرجاع ما ليس له علاقة بالحدث من ذكريات، أو الاهتمام بتوافه الأمور، التي لو غابت ما تأثر السرد بغيابها.
ثانيا - الاستيلاء على مهمة السارد (الراوي).. فكما يستولي السارد التقليدي في بعض الأحيان على دور الشخصية ومهمتها، ليقول عنها، وهي صامتة، أو ليغيبها عما يستوجب حضورها، بالمثل يمكن للمؤلف أن يستولي على مهمة السارد ودوره، ليعطل الحدث والدراما ويوقف الزمن لخاص بالحدث ونموه، ليبدأ في سرد تذكاراته حول المكان والزمان المختلفين، مسافرا إلى الماضي الآفل الجميل، ليصف ما كان عليه الأمر من عادات وتقاليد ومهن وملامح مكانية تصرّمت.. هو مخلص للبيئة، ويريد أن يقبض على ملامحها المتصرّمة قبل أن تفر من ذاكرته، ومتعصب لعاداتها وتقاليدها وينتهز أية فرصة للحديث عنها ووصفها، وأشرف لمثل هذا المؤلف أن يترك لعبة السرد، إلى كتابة من نوع مختلف حول بيئته الأثيرة أو ماضيه الجميل، أو أجداده العظماء. فلعبة السرد لعبة فنية لها اشتراطاتها الفنية أيضاً.
ثالثًا - الحد من فعالية الشخوص.. فالشخوص يمكن أن يكونوا من خلال الحوارات ساردين من نوع مختلف يساهمون في تقديم الحدث أو معلومات مهمة عنه، أو الدوافع إليه، كما يمكنهم أن يفصحوا بطرق غير مباشرة عن أنفسهم وأعمارهم ومستواهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
وفعالية الشخوص تتطلب ساردا من نوع خاص، يكون مساويا لهم وليس أعلى منهم، وكذلك يتطلب أن يكون معهم، لا خلفهم.
وتنوع الساردين الثانويين مثل الشخوص ودورهم في المشاركة السردية يثري السرد، ويعطيه قدرة على التشويق، ودفع الملل، والأهم من ذلك أنه يخبرنا بالحدث من مصادر متنوعة ومتفاوتة. والأكثر أهمية من ذلك أنه يعطي المتلقي دورا مساهما في الكشف، عندما يكتشف الشخوص ومن هم وما دورهم ومستوياتهم الاجتماعية ورؤيتهم للحياة ونفسايتهم وبيئاتهم من خلال حواراتهم.. وهذا في حد ذاته يصب في خانة الدراما التي تدور في وسط معلوم للقارئ بطرق سرديّة غير مباشرة، ويتطلب نوعا راقيا من الحوارات الواعية، ويتم بواسطة شخوص اكتشف القارئ بنفسه من هم، من خلال حديثهم وحواراتهم. هذا الجانب السردي المهم يمكن تدميره في حالة تولى مهمة السرد سارد ديكتاتور.
رابعًا - توقيف الزمن لفترة طويلة نسبيا.. يُعد الحوار ـ أحياناً ـ نوعا من توقيف الزمن.. ونعني زمن الحدث، إذا كان منفصلا عنه، مثل الحوارات الجانبية، وتلك التي تنقل معلومات لا قيمة لها ولا تتعلق بالحدث.
كما يعتبر الوصف نوعا من توقيف الزمن، يهتم ـ كما هو الحال في الروايات التقليدية ـ بوصف بيئة الحدث، وهو مهم، ولكن إطالته تضع الحدث في المرتبة الثانية لا الأولى، وتصيب القارئ بالملل، لأنه لا يكتشف بل يتلقى في صمت ما يلقنه إياه السارد، والأفضل من ذلك تفتيت الوصف إلى أجزاء تتأتي مرحليا بمصاحبة الحدث. والتركيز على الأهم منها، وما له علاقة مباشرة بالحدث، أو بطبيعة الشخوص.
هذه الجوانب الفنية تؤثر بدورها في أسلوب السرد، وتجعله إما مملا أو شيقا، مسهبا أم مركزا ومكثفا. كما تؤثر في فعالية التلقي عند القارئ، وتجعله إما شريكا إيجابيا فعالا في عمليه التأليف واكتشاف دلالات الحدث، ونفسيات الشخوص ودوافعهم، وإما مجرد متلقٍ سلبي، يتم تلقينه بصرف النظر عن شعوره بالملل، وبصرف النظر عن استعداداته وحماسته للحدث وانفعاله به.

تعليق عبر الفيس بوك