"قرية أو مدينة" في تراث اللسان والعمران

أ.د/ علي ثويني – خبير اليونسكو – السويد

 

ثمة حاجة لإخضاع الاصطلاحات الخاصة بمفهوم التجمع الحضريّ أو العمراني إلى منهجيات المصدر الحفري واللساني والاسترسال في التداول والتقادم الزمنيّ والمعنى المجازيّ والوظيفي، الذي يصبُّ في سبر كنه الظاهرة، وصالح الثقافة العربية التي أثرت أكثر مما تأثرت، بعدما احتوت أقدم المستوطنات الحضرية.
نلتقي بواكير الانتقالة من القرية إلى المدينة في الطبقة الثالثة من طبقات (تل الصوان) الواقع في سامراء شمال بغداد، قبل أن تقام "أوريدو" و"أوروك" و"أور" في جنوب وادي الرافدين. وحري الإشارة إلى أن المصطلح "السومري" و"الأكدي" لم يفرق بين المدينة والقرية، حيث تداول اصطلاح (أورو-Uru ) في السومرية و(آلو-Alu ) في الأكدية، لتشمل كل تجمع بشري. وكان مايميز المدينة السومرية وجود بؤرة وسطية تشمل المعبد وقصر الملك ومقرات الموظفين تدعى "قبالتي علي" (Qabalti Ali)، وكان للمدينة بوابة يشرف عليها رئيس البلدية، ويقع على تخومها داخل السور فناء، أما خارجه فتقع الضواحي أو البر المدينيّ أو الأوريّ (Uru-bar)، وقد أضيف للمدينة الميناء (كارا Kar السومرية، و Karu بالأكدية) مكان المخازن و(فنادق) المسافرين والتجار والعمال ومنها جاءت (كار) الفارسية وتعني عمل وهي توحي بقربها من كلمة (قر- قرية) العربية. وأن تسمية (كربلاء) الإسلامية، هو (كورو- بابل)، أي قرى بابل أو ريفها وليس (كر وبلاء) كما يظن البعض.
ومفردة (حي) في العربية مثلا تعني جزءًا من المدينة المسكونة، وتدب بها الحياة. وهذا لانلمسه في جل اللغات الغربية التي ترمز إلى الاستقطاع الأرضي ولا يحمل رمزية أو مجازًا معاشًا، كما في (district - neighborhood) الإنكليزية، التي تعني مقاطعة أو مجاورة سكنية (أو الساكن الجديد nybor من مصدر اللغات الإسكندنافية)، وفي الفرنسية ترد بصيغة (Quarter) التي تعني الربع اللاتيني، كما الأرباع في المدينة الإسلامية، ويعني مجازاً حصة أو جزءًا، وربما جاءت "إيتمولوجياً" من (كار) السومرية.
إن المنطقة التي كانت تُشْكّل الجزء الثالث من المدينة السومرية مثل "أور" وأوروك ولكش، (منطقة الحرس) تشكل مركز النشاط التجارى الخارجي (كار)، وترد المدينة في الأكدية بصيغة سبتو (Subtu)، وهي (السبات) العربي، ويعني (الاستقرار)، و(الراحة)، كما في يوم راحة الآلهة أو السابع (أيل- سبت) الذي أمست عند الغربيين (إليزابيت). ونلتقي اصطلاحا مدينة ومجموعها مدن وقرية ومجموعها قرى، وبلد\ بلدان\وبلدات أو مصر\ أمصار أو آبدة\ أوابد، أو رستاق\ رساتيق، أوقصبة\ قصبات أو دسكرة\ دساكر.
و(العمران) يعني البنيان، أو ما يعمَّر به المكان وتُحسَّن حالتُه. أما عند ابن خلدون (1333-1406م)، فهو المجتمع والناس، إذ يعرِّفه بكونه التساكُن في (مصرٍ) مدينة، أو (حُلّةٍ)، للأنُس واقتضاءِ الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعيش. فالجمع بين المدينة ماديا والعمران كمفهوم إنساني وروحي، بما يجعل الحديث عن المدينة يكتسي مناهج تحاول أن تلملم مذاهب المنشغلين والمشتغلين بهذا المضمار. وتحول (العمران) الخلدوني إلى ماندعوه اليوم علم الاجتماع (سوسيولوجيا).
لقد تداول اسم القرية أكثر من المدينة في القرآن الكريم، حيث تكررت المدينة 14 مرة، ووردت القرية 33مرة. ودعيت المدن بالقرى وسميت مكة المكرمة (أم القرى)، وربما جاءت تسمية النبي (الأمي) تبعا لتلك التسمية. وعدت العربية بأن القرية تطلق على الأهل وتطلق على المنازل والبيوت. والقرية نفسها، تعني أرضها ومكانها وساكنيها. وترد القرية بالعربية من مصدر (قرَّ، واستقرَّ) أي مكث وبقى. وجذرها من مصادر اللغات القديمة، كما الأكدية وفرعيها البابلية والآشورية في العراق والأمورية والكنعانية في الشام.
وتخبرنا بحوث الحفريات بأن ( الكارو) لا يطابق ميناء القرون الوسطى من حيث الوظيفة فحسب، بل من حيث التسمية أيضاً. ووردت الكلمة في الآرامية، ومازالت في سلطنة عمان مدينة تدعى (قريات) من نفس المصدر، ونجدها إلى الشمال في (قريات أربع) أي القرى الأربع، وهو اسم مدينة الخليل الفلسطينية. وقد وردت في تسميات المدن الكنعانية ولهجتها الفينيقية في (قرطاجه)، وأصلها (قَرْتْ حَدَشْتْ) ومعناها المدينة الحديثة. ونذهب إلى أن كلمة (قيروان) الإسلامية التي أنشأها عقبة بن نافع عام 55هـ\ 677م، تمتّ بصلة بالإرث اللساني الوارد من الفينيقية، بالرغم من وجود تفسير عربي غير مقنع، يرجعها إلى معنى فارسي، ويعنى موضع اجّتماع الناس والجيش، وقيل محط أثقال الجيش وقيل هي الجيش نفسه..الخ. وقد ذكر البلاذريّ بأن الخليفة عمر (رضي الله عنه)، أوصى في رسالته إلى سعد بن أبي وقاص: بـ(أن يتخذ للمسلمين دار هجرة وقيروانا) فاختار الكوفة. ووجدنا بعض النصوص في كتب التراث التي تفسر كلمة قرية لجمعها الناس و"القرء" بالفتح، يعني الاجّتماع ومنه قرأت الماء في الحوض، أي جمعته، ومنه سمي القرآن قرآنا لأنه يجمع أمراً ونهياً وخبراً ووعداً ووعيداً وغير ذلك.
أما اصطلاح "مدينة" فإنها ترد في الآرامية بصيغة (مدينتا)، وتشترك بها مع شقيقتها العربية وكانت تطلق على المكان الذي يكون فيه القضاء، ومقطع "دين" يعني العدالة كما في (مدين) الواردة في الذكر الحكيم،   وحرف (م) يدل على الصفة وبذلك فهي تعني العادل.و(دين) مصدرها في العربية من دان يُدين ومنه الدَّين، وكل ما في هذا الجذر يدور في معاني (المُلك، الجزاء، العادة، القرض) أي كلُّ ما له علينا سلطانٌ، ندين له، وندين به، ونُدان من جهته، ومنها في القرآن (…كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). وفي السياق نذكر أن العبد المملوك يسمّى بالعربية مَديناً، والأمَة الجارية تسمّى مَدينة، و المَدين تعنى المملوك!، وانزاح المفهوم إلى من يعبد إلـٰـهاً فهو يدين بدينه.
ونذهب إلى أن المصدر الأقدم المدون ورد من كلمة (دي  Di) السومرية التي عنت العدل والقانون والدعوى والنصوص. ثم نونت في الأكدية وهي قاعدة تخص التعريف (مثل ألف لام العربية)، فأمست (دين) وعنت العدل والقسطاس والحساب، تماما كما في العربية. ووردت في الذكر الحكيم بصيغة (يوم الدين) أي يوم الحساب، ومنها ورد (الدين) أي السلف أو (الديان)، وهي إحدى صفات الخالق سبحانه، بينما عرفت عند الأكاديين والآشوريين بمعنى القانون، وفي الآرامية (مدينتا) عنت القضاء. و إضافة  حرف (ميم) الفاعل لـ(دين) (مدين) طبعها كمكان لممارسة الدين،  ثم أُنّثت بالعربية وأمست (مدينة)، وربما أختير لها التأنيث لكونها لدودة البداوة وموقع ازدرائها ومحط طمعها، ضمن العقلية الذكورية البدوية في صلب العربية المؤسسة.
وكل المواضع التي أطلقَ عليها لفظ مدينة كان عليها حكام وملوك وفيها على وجه التحقيق الصيغة القضائية، والدينية، والإدارية، والسياسية. وأمست المدينة المكان الذي تتوفر به العدالة والقضاء والأمن لوجود السلطة والحضارة، وورد اصطلاح (الديان) في الحديث الشَّريف، بمعنى الملك أو الحاكم.            واصطلاح "مدن بالمكان" أي أقام به . حتى لنجد أن المعنى وطأت حتى  اللغة الفهلوية، وهي الفارسية القديمة بصيغة"دائينا" ويعني دين، وورد في كتاب الأفيستا بمعنى"الضمير"، و"الصوت الداخلي" الذي يحث الإنسان على اتبّاع الصراط المستقيم. وفي السياق المفاهيمي سرى الأمر في الهيروغليفية أو المصرية القديمة، وجاء  بصيغة ) ماعت (وعنت الحق والعدل والاستقامة. وبالمقارنة فإن كلمة دين في اللغات الغربية (religion)، وتعني باللاتينية إعادة الارتباط أو الترابط أو اللُحمة، ولاتحمل دلالة روحانية البتة.
و ترد المدينة (بوليس polis-η Πόλη) في اليونانية ونجدها في عدة أسماء عربية كما في (طرابلس) أي المدن الثلاث (ثري- بوليس) أو نابلس (ني- بوليس) وتعني المدينة الجديدة. وانزاحت دلاليا لتعني (شرطة police) أو (سياسة policy-politic)، وكأنها تريد أن تحاكي مفهوم (دين- مدين) السومري، أي المكان الذي يتوفر به القانون والسلطة السياسية. ومصدر الكلمة عند ممفورد من السنسكريتية القديمة (بورpoor) التي تداولته الشعوب الهندية- الفارسية، كما في تسميات جنديسابور وجايبور. ونذهب بأنها مسترسلة من مصدر كلمة (أور) كذلك، بعد أن أخذت بعدا وائم اللغة السنسكريتية واكتسبت (الباء) كاشتقاق مركب، كون تلك الثقافة بنت مدنها الأولى في شمال الهند بتأثيرات سومرية (موهانجو دارو) في السند حوالي 2100 ق.م.  أما في الإنگليزية فهي تدرج من الريف أيضاً كما في المدينة مثل: مزرعة Ranch – رياض- عزبة (نزلة) Hamlet وهي جيرمانية - مستوطنة  -Settlement وهي لاتينية، وقرية Village وهي لاتينية  وتتدرج من صغيرة إلى متوسطة إلى كبيرة بلدة  - Town، وهي جيرمانية وتستعمل في اللغات الشمالية بصيغة (تونا tuna) ، ثم ترد City  وتقابل مدينة، وهي من مصدر لاتيني، وتتدرج إلى (ميغا تاون) لتشمل أعدادا مليونية إلى (متروبولونية) التي يصل سكلنها إلى عشرات الملايين، كما في القاهرة وشانغهاي ونيويورك.

تعليق عبر الفيس بوك