سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (7)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ
جامعة نزوى – سلطنة عُمان


في الحلقة السادسة واصلنا الحديث عن التفاسير والقراءات الواردة في قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيْرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾. وبعد استعراض جميع القراءات والتفاسير الواردة للإجابة على سؤال: ما السر وراء قوله تعالى :(لله) جوابا على (مَنْ)؟ أي وقوع (مَنْ) الاستفهامية بعد (القول), وجوابها وقد انتهيتُ إلى خلاصة ما حاك في صدري وأنا أتأمل أسلوب الآيتين لأقرر أن أسلوبهما "التفاتا " أو "عدولا" أو "خروجاً"على مقتضى الظاهر" أو "انحرافاً" على ما هو متداول من مصطلح مناسب قديما وحديثا, ليستدرج الله (المخاطبين إلى الاعتراف بمالكيته لإقرار ربوبيته ووحدانيته.
ورُبَّ معترض يقول:كيف توفق بين ما ذهبت إليه هنا أنه "التفات" وما شاع عند البلاغيين من مفهومه, وأنه من المحسنات البديعية ؟ فأقول :هذا السؤال وارد نجيبه على الوجه الآتي: الالتفات: مفهومه, ودائرته, وفن الممكن منه: فقد انقسم البلاغيون – القدامى والمعاصرون – في تحديد المفهوم (الالتفات) وضيقوه, حتى بهتت صورته, فانحصرت في الضمائر, ولكن من أنعم النظر في مواطنه من الكلام الرفيع, ظهرت لك وجوه كثيرة تزيدك إحساسا بقدرته، وسماه ابن جني (ت392هـ) "شجاعة العربية"، وفسر الباحثون (الشجاعة العربية) أنها "إقدام على أنماط من التعبير مخالفة لما يقتضيه الأصل". أو أنها "دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في حومة الوغى بالكَرِّ والفرِّ".
ومن تعريفاته التي تعزز ما ذهبنا إليه: "الانصراف من معنى يكون فيه إلى معنى آخر"،"أن يفرغ المتكلم من المعنى فإذا ظننت أنه تجاوزه يلتفت إليه بغير ما تقدم ذكره به"، و"الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع"، و"عطف أعنة الكلام... يجمع بين حاشيتي كلامين متباعدي المآخذ والأغراض وأن ينعطف من إحداهما إلى الأخرى انعطافا لطيفا من غير واسطة تكون توطئة للصيرورة من أحداهما إلى الآخر على جهة التحول"، و"هو العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول و هذا أحسن من قولنا : هو العدول من غيبة إلى خطاب ومن خطاب إلى غيبة , لأن الأول يعم سائر الالتفاتات كلها"، و"إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر"، و"الخروج على مقتضى الظاهر...يعطي المتكلم أو الكاتب مجالا للتعبير عن الآراء بطرق مختلفة...لأنها تعبير عن المعنى بغير لفظه الموضوع له وبغير أسلوبه المعتاد"، و"ينحرف بالأسلوب عن نمط الأداء المألوف ليحقق ما يريد من أهداف يعجز عن توصيلها التركيب العادي، وقد يمثل الالتفات نازعا نفسيا يوحي بتضارب الأشياء والأحداث"، و"إقدام على أنماط من التعبير مخالفة لما  يقتضيه الأصل... واقتحام سبيل غير السبيل المألوف".
إن هذه التعريفات التي تحاول أن تعطي (الالتفات) دائرة أوسع في التشكيل اللغوي الذي ينتهك المطابقة التي التزمها النحاة والبلاغيون لمقتضى الظاهر تمتد بالحركة الدلالية في بنية  الاستفهام من الخارج (صورة الشيء) إلى الداخل (الذهن) أي من المستوى السطحي إلى المستوى العميق فضلا عن أن الدعوة إلى توسيع دائرة (الالتفات) ، وعدم حصرها في الالتفات: في الضمائر أو صيغ الأفعال أو العدد أو التذكير و التأنيث والعكس أو الانتقال من الجملة لفعلية إلى الاسمية والعكس، وقد تبنى هذه الدعوة كثير من القدماء منهم: ضياء الدين ابن الأثير (ت637هـ)، وابن النقيب:أبو عبد الله محمد بن سليمان البلخي (ت698هـ)، والطوفي:سليمانبن القوي البغدادي(ت716ه)، والتنوخي:محمد بن عمرو(ت 748هـ)، وترجح البلاغيون – القدامى والمحدثون – في أن يعدوا (الالتفات ) مرة من علم المعاني، وثانية من علم البديع، وثالثة بين علم المعاني وعلم البديع على وفق فائدته.
وكفانا أستاذنا أحمد مطلوب في حل هذا الإشكال فقال: "لما  كان الالتفات ضربا من فنون البلاغة له أسلوب وجماله فليس من الدقة أن يبقى مترددا فيكون في علم المعاني إذا اقتضى المقام فائدته، ويكون في علم البديع إذا أريد به الطرافة وإنما يفرد له باب كما فعل ابن الأثير الذي لم ينظر إليه هذه النظر الجامدة" فأرى:
(1)    توسيع مفهوم الالتفات ليضم إليه كل ما كان خروجا على مقتضى الظاهر.
(2)    أن يكون له باب مستقل يعنى به ليقف المتلقي على خصائصه وجمالياته واستعمالاته.
هذا فضلا عن أن مقتضى الآيات وسياقها يقرران "أن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى"، و"كان مشركو العرب مضطربي العقيدة لا ينكرون الله...ولكنهم مع ذلك يشركون معه آلهة مدّعاة فهو هنا يأخذهم بمسلماتهم التي يقرون بها ليصحح ذلك الاضطراب في العقيدة ويردهم إلى التوحيد الخالص".وأن الآية تشير إلى أنهم يعترفون (لله) بالربوبية وأنه لا شريك له فيها ويشركون معه غيره في الألوهية حتى عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر".
 وأخيراً : بهذا كله نقرر يا ولدي أن الجواب (لله) في الآيتين التفات مقصود خرج على مقتضى الظاهر ليستدرج المشركين إلى الاعتراف بمالكية (السموات السبع)، و(العرش العظيم)، و(ملكوت كل شيء) وصولاً بهم إلى التوحيد اعتماداً على أمرين:
(1)    مفهومنا للالتفات من خلال إشارات السابقين ودراساتهم.
(2)    مقتضى سياق الآيات وحال الخطاب.
والله أعلم بمراده.
..............................
المراجع:
(1)    محمد محمد أبو موسى: خصائص التراكيب- دراسة تحليلية لمسائل علم المعاني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 2000م، ص249.
(2)    ابن جني: الخصائص، 2/360.
(3)     محمد محمد أبو موسى: خصائص التراكيب، ص250.
(4)     عبد الله عليوه: بلاغة الالتفات والتغليب، دار الأرقم، الزقازيق، مصر، 1993م، ص10.
(5)     ابن المعتز: كتاب البديع، تحقيق أغناطيوس كراتشقوفسكي، دار المسيرة، بيروت، ط3، 1982م، ص50.
(6)     أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1971م، ص407.
(7)     السكاكي: مفتاح العلوم، طبعة نعيم زرزور، ص95.
(8)     ابن الأثير: المثل السائر، 2/181.
(9)    حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الكتب الشرقية، د.ت، ص314-315.
(10)    يحيى بن حمزة العلوي: الطراز، 2/132.
(11)    الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط5، 1983م، ص154.
(12)    أحمد مطلوب: أساليب بلاغية، ص287.
(13)    أسامة البحيري: تحولات البنية في البلاغة العربية، دار الحضارة للطبع والنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2000م، ص293.
(14)    محمد محمد أبو موسى: خصائص التراكيب: ص250.
(15)    ابن الأثير: المثل السائر، 2/167-182.
(16)    الطوفي: الإكسير في علم التفسير، تحقيق عبدالقادر حسين، مكتبة الآداب، القاهرة، 1977م.
(17)    التنوخي: الأقصى القريب في البيان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1327ه.
(18)    ينظر:ابن قتيبة:تأويل مشكل القرآن،ص275،وقدامة بن جعفر:نقد الشعر،ص150م،وابن جني:الخصائص،2/360، والسكاكي:مفتاح العلوم،ص95،وابن الأثير،المثل السائر،2/135،وابن أبي الإصبع:تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن،تحقيق حفني محمد شرف،القاهرة،المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية،لجنة إحياء التراث الإسلامي،د.ت،ص125،والعلوي:الطراز،2/131،والقزويني:الإيضاح،ص71،وغيرهم.
(19)    ينظر:ابن المعتز: البديع،ص58، وأبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين، ص407، والزمخشري: الكشاف،1/118، والفخر الرازي: نهاية الإيجاز،ص287، والطيبي: التبيان في علم المعاني والبديع والبيان، تحقيق هادي عطية مطر الهلالي، عالم الكتب، بيروت،ط1،1987م،ص284، والسجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع،تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف،الرباط،ط1،1980م،ص442،وغيرهم.
(20)    ينظر: عبد المتعال الصعيدي، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، مكتبة الآداب، القاهرة،1999/2000م ،1/118، وعبدالفتاح لاشين: المعاني في ضوء أساليب القرآن الكريم، دار الفكر العربي،القاهرة، 2000م، ص180.
(21)    أحمد مطلوب: أساليب بلاغية، ص274.
(22)    الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، 8/290.
(23)    سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط5، 1996م، 4/2478.
(24)    محمد محمود حجازي: التفسير الواضح، دار التفسير للطبع والنشر، القاهرة، ط10، 1992م، 2/640.
(25)   

تعليق عبر الفيس بوك