الشاعر التونسي رحيم جماعي لـ"الرؤية:

الصّحافة ليستْ مقياسا للأدب؟

حاوره: ناصر أبو عون


    (بعض الصّحافة) بهيمة تقتات من الفضائح والجرائم، والأدب.
    لا يمكن أن نكتب نصّا يضيئ الدّرب الطّويل اعتمادا على جسد زائل.
    الشّعر إنسان عاطل بلا ورقة.
    أكتب سيرة روائيّة، أكثر جرأة من محمّد شكري

.
رحيم جماعي أولُ شاعرٍ تونسيّ ترجَّل له وزيرُ الثقافة من برجِهِ السياسيّ المُدَجَّجِ بـ(الولاءات)، و(اللاءات)، وزاره في بيته؛ بعد عقود عِجاف عَصَفَتْ بالثقافة التونسيّة.. حطّ الدتور محمد زين العابدين وزير الثقافة التونسي في حضرة رحيم جماعي بـ"ضاحية الوردة" بعد إعلان الأخير (الإضراب عن الطعام) احتجاجًا على سوء أوضاعه الاجتماعية والاقتصاديّة والتي أجلسته وعشرات المثقفين التونسيين على "مقعد العاطلين والباحثين عن عمل، وظلّ واقفا في طابور الانتظار" رِدحًا من الزمن بحثًا عن فرصة عمل فلم يجد جوابًا من وزارة الثقافة التونسيّة التي كانت في العصر البائد تسدُّ أذنًا من عجين، وأخرى من طين.. "رحيم جماعي" "صندوق حكايات لا ينضب" وكل كلمة في هذه المقابلة القصيرة تساوي مشهدًا سينمائيا؛ بل حوار يضجّ بالمرارة والمكاشفة والألم والجرأة والشاعرية.. فإلى الحوار....   
(1)    في قصيدتك “أبعد من نبع الغزال” انزياح مجازيّ لتحوّل المدينة العربية في الكتابات الأدبية من حالة (اليوتوبيا) إلى (الديستوبيا) المخيفة.. هل هي طريقة جديدة للقصاص؟ أم لافتة إبداعية ترفعها في وجه باعة الأدب من حاملي المباخر ؟
(***) (أبعد من نبع الغزال)، سيرة شعريّة، تترجم حياة أو ممات خمسين عاما، لستُ أدري أين ذهبت.. كانت هذه القصيدة مفاجأة في تجربتي المتواضعة، لم أكن على أهبّة لاستقبالها "أبعد من نبع الغزال"، شبيهة فقط بالنتيجة (نورس) ، هكذا فجأة، وبعد خراب في الرّوح، تقول أمّ نورس إنّ هناك قادمة، تدلّ على وجودي الّذي كان قبلها عبثيّا.. " أبعد من نبع الغزال" ، لم تكن شيئا غير ترجمة حقيقية لواقع كان يمكن أن يكون أحلى... " أبعد من نبع الغزال" قصيدة لا تتّهم أحدا، ولا تستثني حيّا أو ميّتا... " أبعد من نبع الغزال" غير هيّابة من أحد.. " أبعد من نبع الغزال" مرآة كاشفة.. " أبعد من نبع الغزال": سيرتنا جميعا.

(1)    تعاني الصحافة الثقافية الورقية اليوم من أزمة حقيقية وصراع وجود مع الفضاء السبراني وخاصةً مع ظهور مصطلح (القصيدة الإلكترونيّة).. هل ستنجح وسائل التواصل الاجتماعي من إنزال الصحافة الثقافية المطبوعة من على عرشها؟
(***)الصحافة ليست مقياسا للأدب؟ (بعض الصّحافة) بهيمة تقتات من الفضائح والجرائم، والأدب أيضا... لا شيء يُدعى بالصّحافة إذا لم يكن هناك حدث عظيم، والأدب عموما أحداث أعظم... عندما أطلق (هيمنجواي) الرّصاص على نفسه، اهتزّ العالم، وعندما انتحر (ميشيما) على طريقة السّاموراي، وقفت اليابان مذهولة، ولم تفهم ما حدث إلّا بعد مرور سنوات على انتحار كاتبها الكبير... كلّ ما هو إلكتروني لن يصمد أمام حقيقة واحدة، وهي أنّها زائلة أمام خلود الكتابة الحافرة في القلوب.

(2)     هل تعتقد أن القصيدة الإلكترونية أكثر قرائية من القصيدة الملقاة أو المطبوعة.. وأيهما أكثر تفاعلية؟ وهل ستتأثر صناعة الكتاب وخاصةً الشعر بالنشر الإلكتروني؟
(***) هل مات المتنبّي، هل مات صفيّ الدّين الحلّي، هل ماتت رابعة العدويّة، هل اندثر الحلّاج، ودرويش، ونزار، والنّوّاب؟ رغم أنّني لا أحبّ الأخيرين...  المجد للورقة، كلّ ما تكتبه يدوم بدوام من يتحسّس الورقة ويشمّها... الشّعر إنسان عاطل بلا ورقة... رائحة الورقة كرائحة السيّدة التي نتوهّم أنّنا نفي حقّها عندما نكتب عنها... الورقة تلك الطّفلة النّاعسة، كيف نكتب حلمها الأحلى وهي ناعسة تبتسم؟ الورقة ذلك المقعد الشّاغر بلا عاشقين في حديقة كئيبة، كيف نكتب حزنه الأزليّ؟ الورقة لا تفي بشعور كهذا، فما بالك بما ذكرتَ صديقي ناصر...  لكنّ الورقة أبقى، وأنا أعلم، وقبلي الّله أعلم.

(3)     أين الشاعر رحيم جماعي من (الرواية) كجنس أدبي؟ وكيف تنظر إلى الرواية المغاربيّة في مجموعها؟ وهل لديك مشروع للكتابة السردية؟
(***) الرّواية... يا للهول... الرّواية... انتهيتُ من كتابة روايتي الثّانية، وأنا أكتب روايتي الأولى في جزئها الثّالث... هل تصدّق؟ أكتب سيرة روائيّة، أكثر جرأة ولؤما وبؤسا ومن محمّد شكري... سيرتي في الحياة تشبهه، لكنّني - كما أعيش- أكتبها... محمّد شكري كاتب نادر جدّا، في واقع يستحي أن يقول حقائقه، لكنّني أفوق شكري في جرأتي... محمّد شكري خبّأ بعض الحقائق خجلا، أنا كتبتها انتقاما وعنادا... كلّ ما استحى محمّد شكري من كتابته... كتبتهُ أنا.

(4)     تؤكد الدراسات أنّ قراء الشعر يتناقصون سنوياً أو يقل عدد الذين يشترون كتب الشعر أو يحضرون الأمسيات الشعرية.. هل هي إشكالية تذوق، وتلقٍ؟ إمّا إن الإشكالية نتيجة طبيعية وردة فعل للنثرية الفضفاضة التي أفسدت الشعر؟ وإلى أي جمهور تكتبين الشعر؟
(***) لا هذا ولا ذاك، أرجّح فساد الأخلاق، وسوء السّلوك على ما يسمّى بالشّعر لدى (الآخرين)... دعني أقول حرفيّا، إنّ الّذي يسود الآن، والآن تحديدا، هو الجسد وليس الشّعر.. لا يمكن لواقع كهذا أن ينتج نصّ جديدا... لا يمكن أبدا أن نكتب نصّا يضيئ الدّرب الطّويل اعتمادا فقط على جسد زائل... لم يقطع المتنبّي كلّ هذا الطّريق الحجريّ لتؤثّثه التفاهة... الخنساء لم تكتب بجسدها،...  الشّعر حقيقة، والجسد عهر يزول.

تعليق عبر الفيس بوك