تشكيل ثقافة المجتمع

 

المعتقدات الدينية

مازن الغافري

إن صح القول: فالإنسان مخلوق مُتدين، أينما وجد فهو يبحث عما يؤمن به، فلا يوجد مُجتمع باختلاف مستواه الثقافي إلا، وله إله يؤمن به؛ ذلك أنَّ الإيمان بالنسبة للإنسان متنفس روحي يفيء إليه عندما يشكل عليه أمر يعجز العقل عن تأويلة لأمور منطقية؛ كما أنَّ الإله الذي يعبده الإنسان هو بالنسبة له القوة الخفية التي يجد عندها الحلول التي تستعصي على بني البشر معرفتها، فالإله هو القوة الخيرة التي ينعم بها على مخلوقات الكون، أو هي تلك القوى الشريرة المدمرة التي لا تتوانى عن تدمير الكون في ساعة ذروة غضبها، فحسب ما يؤمن به المجتمع من دين يكون الإله الذي يعبده حتى أنه قد تتعدد الآلهة؛ بتعدد الأفكار التي يشكلها الدين الذي يؤمن به المُجتمع.

إنَّ الدين في حقيقته هو ظاهرة اجتماعية شاملة تُميز أو يَتميز بها المجتمع عن غيره من المجتمعات ذات الديانات المختلفة، وفي هذا فإننا لو تمعّنا في جميع المجتمعات لوجدنا أن غالبيتها عبارة عن سلوكيات في كثير منها مرتبطة بالتعاليم الدينية التي عادة تكون مسيطرة  بشكل كامل، أو نسبي على المجتمع، وعلى مر التاريخ كان الدين هو سبب أساسي في نشوء الحضارة الإنسانية، فمنذ اكتشاف عصر الباليوليت  -وهو عصر بزوغ الإنسان كما يعتقد تاريخيًا- قبل مائة ألف عام، والذي نستطيع أن نطلق عليه عصر الإنسان الأول؛ وجد علماء الأنثرولوجيا، وعلماء الميثولوجيا ما يشبه الطقوس في مقابر النياندرتال، وهي طقوس تختص بدفن الموتى التي تعبّر عن أن هنالك دين كان يؤمن به هذا الإنسان؛ مما جعله يُعنى عناية شديدة بدفن الموتى، فقد وجد في مقابر الموتى بقايا لعظام حيوانات برية مدفونة بجانب الميت، وقد وضع الميت في قبره بطريقة معينة تتشابه مع الموتى الآخرين؛ مما يدل على أنّ هنالك مراسم دفن تمر عبر طقوس معينة، وأيضًا في  الحضارة الفرعونية تبدو طقوس الدين واضحة، وجلية من خلال الآثار التي تركوها، فالدين بالنسبة لهم نهج الحياة القائم على تقديس الفرعون عادة، واللجوء إلى الإله في حالة معينة عبر طقوس مُعينة خصصت لغرض معين. كل ذلك إنما يبين أهمية الدين، وتجذّر وجوده في حياة البشرية منذ القدم. يقول تريتليانوس:" الإنسان ميال بغريزته إلى الديانة مُقرا بكمالات الله وأكثر الحقائق الدينية وأيضا بما أن الأمم على اختلافها ما برحت في كل زمان تقيم الذبائح للعزة الإلهية. وأقوال العلماء والفلاسفة بهذا الشأن تنفي عن هذه الحقيقة كل ريب. فهذا الإجماع العام لكل زمان ومكان وأمة لدليل قاطع على ضرورة الديانة."

ما أردت أن أبينه فيما سبق أن الدين، والمعتقدات الماورائية ضاربة في العمق التاريخي منذ وجود الإنسان على الأرض، ومهما كان شكل الدين، والمعتقد الذي كان يؤمن به الإنسان إلا أنَّ له أثر كبير على سلوكه، وكذلك على تشكيل ثقافته الاجتماعية؛ ذلك أن الدين في أغلبه هو ممارسات اجتماعية تتعدى الفرد إلى الجمع، كما أن سلوك الفرد مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تأثره بالدين، وإيمانه بمعتقد ما، ودائماً ما نجد الدين على أنه الحياة التي إن لم يكن يعيشها الفرد، والمجتمع بتفاصيلها كان معيارا أخلاقيا من خلاله يقيس الفرد، والمجتمع مدى الإعوجاج الذي يعانيه. يقول جوستاف لوبون في ذلك:" الدين وأن ضعف بنظر العقل إلا أنه يُقّوم إعوجاج الشعوب ويمنعها من الوقوع في الهمجية".

لقد عنيت الأديان بمختلف منشأها بالإنسان كفرد، وكمجتمع، وحددت علاقاته في إطار أخلاقي محكم؛ حيث كان هو المحور الأساسي الذي تقوم فكرة الدين عليه، فالإنسان بالنسبة لها ذلك المخطئ، والعاصي، والتائه الضال، الضعيف؛ الذي يحتاج إلى عناية إلهية، وتقويم، وهداية مستمرة، فلولا وجود الدين لضاعت إنسانية الإنسان، ولهدم المجتمع الإنساني؛ لأنه في حينها ليس له رادع روحي يصده عن وحشيته، وعنجهيته، وهمجيته؛ لذلك نجد أن العناية الإلهية أول ما نزلت على النبي الكريم محمد عليه السلام كانت بـ"اقرأ" التي هي العنصر المهم في الجانب الفردي لتأسيس ثقافة أي مجتمع يطمح للتقدم، والرقي، ثم نجد بعد ذلك العناية الإلهية، وقد شرعت في بناء الشخصية الإنسانية من خلال ذكر صفاتها في مواضع عديدة في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وهي صفات الإنسان المتزن، والسوي؛ المؤهل لحمل الأمانة؛ لنجد الخطاب القرآني لاحقًا متفرقاً بين الفرد، والجماعة بدلالة بناء مجتمع سوي، موحد متكاتف يسعى -من خلال عبادة الله- إلى تنمية الأرض، وعمارتها بالعلم والبصيرة؛ متوخياً في ذلك مبدأ السلام الذي جاء به دين الإسلام.

لاحظنا سابقًا أهمية الدين للإنسان؛ ولكن لابد لنا أيضًا أن نعلم بأن الدين هو السمة الرئيسة البارزة في كل المجتمعات، وهو في غالب الأحيان - ولا سيما في المجتمعات المتدينة، أو ذات الدين الواحد المشترك- أصل من أصول مكونات الأيديولوجية لديه، فأيّ فساد في العقيدة، أو الدين يتبعه فساد في الفكر العام لذلك المجتمع الذي بدوره يجعل من ذلك المجتمع منغمسًا في أفكار تبعده غالبًا عن هدف وجوده في الحياة. كما يكون صلاح المجتمع في أغلب الأحيان بصلاح معتقده حيث إنَّ الدين الصحيح، والعقيدة السليمة تنأى بالإنسان الفرد، والمجتمع ككل عن الخوض في المسائل العقيمة، والترهات التي لا تؤدي في نهاية المآل إلا للتنافر، والتناحر بين البشرية، وربما بين أفراد المجتمع الواحد.

تعليق عبر الفيس بوك