"آرنست رينان" والحقيقة الغائبة (2-2)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني
الجامعة الهاشمية – الأردن


.............................
قلنا في المقالة السابقة بأن "آرنست رينان" صرّح بـ"أن اللغات السامية لم ترق إلى مستوى اللغات الآرية في بناء الجملة، فهي عاجزة في الصياغة والتصريف وصيغ الكثرة، لا صور فيها، وتتمتع بضحالة حرمتها من التجريد الذهني والفكر الماورائي والإبداع، وأن جُل ما أجاده أصحابها الساميين التعبير عن الطابع الانفعالي، فكان الشعر منبرهم الذي لا يدانى، وقد برعوا في موسيقاها لأنها والشعر وليدة اللحظة والوجدانية الذاتية".
وإن مقولته هذه تشم فيها بقوة رائحة الحقد  المعتق، ومن ضيق الأفق والتعميم المعمى، الذي لا يصدر عن عقل حر يعرف أسس التفكير العلمي الموضوعي دون وصاية مرسومة بصك كهنوتي محدود ومحدد. وهذا الكلام ينبيء عن رجل لم يعرف شيئا جوهريا في اللغات السامية عموماً، والعربية خصوصاً، إنما هو مسكون بحقد دفين مسبق على الشرق، ومتى كان العدو منصفا؟  بل إن ما سطَّره بعض المستشرقين ردٌ مفحمٌ عليه. وفي هذه المقالة نسوق للقاريء من الأدلة والبراهين على جمال العربية كلغة أصيلة وكيف كانت ملهمة لسائر اللغات السامية والأوربيّة والمعاصرة والصاعدة مع بصعود الحضارة الغربيّة وسطوتها الكلونيالية، وعَصَاها الاقتصادية الغليظة، وسوف ونجملُ للقاريء المتابع في نقاط قليلة بعضًا من ردودنا عليه والتي نسوقها وِفْقَ السياق التالي:
أولا - إن أول أبجدية عرفتها أوروبا، خرجت من أوجاريت إلى اليونان ومنهم إلى الرومان، ومازالت الأبجدية العروبية الأولى: آلف بيت، باسمها وترتيبها باللغات الأوروبية شاهدا على ذلك، وقد ضاعت معانيها الأولى عندهم واحتفظت بها الكنعانية: آلف ثور، وبيت بيت، .....الخ .
ثانيا - إن اللغات العروبية (السامية) عموما كانت تستعمل الأحرف الأبجدية للدلالة على الأعداد، فلكل حرف قيمة عددية، والرومان كانوا يستعملون نظام الحزم، وكلتاهما لا تصلح لتعليم الرياضيات، ولا لحساب الأرقام الكبيرة والعمليات المعقدة والكسور، حتى اطلع العرب في العصر العباسي على كتاب "السند هند"، فوجدوا أن الهنود يستعملون رموزا خاصة للأرقام، فاخترعوا ولم يأخذوا - كما هو شائع خطأ لدى الناس – رموزا خاصة بالأرقام، فكان 1، 2، 3، التي شاعت في المغرب العربي والأندلس وانتقلت إلى أوروبا، وهم يسمونها الأعداد العربية، وشاعت الرموز التي نستعملها اليوم في المشرق ـ وكلاهما عربي أصيل، وليس بدخيل.
ثالثا - إن اختراع الصفر رمزٌ للمنزلة الخالية هو اكتشاف عبقري عربي للخوارزمي، ولولاه ما كان الحاسوب، وما كانت لغات البرمجة، وما كان هناك ما يسمى بعلم  الجبر ، ولا الهندسة الفضائية ولا غيرها.
رابعا - الدراسات العميقة للعراقيين والسوريين التاريخيين تؤكد أن أصل اللغة اليونانية كنعانية، وأن اليونان لم ينقلوا الأبجدية فحسب؛ بل نقلوا الألفاظ، بل إن البعض قال بأن اليونان من أصل كنعاني.
خامسا - إن الرومان هزموا اليونان عسكرياً، لكنهم بقوا لليونان واللغة اليونانية تابعين، ولعلومهم مقلدين غير منتجين، ولا مبدعين ولا منقحين، طبقوا علومهم وفلسفاتهم وقع الحافر على الحافر دون أدنى تفكير، وكل ما فعلوه هو أن ترجموا علومهم منها إلى اللاتينية فحسب؛  بل إنهم طبقوا قواعد اليونانية على اللاتينية وبقوا كذلك حتى بداية القرن العشرين، وظلوا قرونا طويلة يستعملون لغة في حياتهم اليومية ويكتبون بقواعد لغة أخرى، حتى اطلعوا على المنهج الوصفي المتقدم لدى السنسكريت (الهنود القدماء، والعرب) في بدايات القرن التاسع عشر، فنهضوا وأقاموا نظرياتهم اللغوية، ومناهجهم اللسانية والاجتماعية والتربوية على ما أسسه السنسكريت وابن خلدون في مقدمة كتابه العبر، وغيره من جهابذة العربية، حتى قال فيرث: "نشأت الدراسات الصوتية في ظل لغتين مقدستين السنسكريتية والعربية."
سادسا - إن أقدم نقش مكتوب مكتشف في الحضارة الإنسانية بالعراق عمره على ما أذكر يعود إلى ٤-٥ آلاف سنة وقد ذكر فيه اسم العرب، وهو وما بعده شاهد على شغف العرب المغرق في التاريخ بالكتابة والحضارة والعلوم.
سابعا - إن اليونان ومقلديهم الرومان كانوا يستوردون دياناتهم عندما كنا وثنيين من أشور وكنعان، ابتداء من عشتار وتموز، ومرورا بالديانات السماوية، فالغرب يستلهم روحانيته دائما من الشرق.
 ثامنا - إن الديانات الثلاثة الأخيرة نزلت في بلاد العرب، وباللهجات الثلاثة: (العبرية، والسريانية، والعربية)، وهم علينا عيال إلى يوم الدين في روحانيتهم؛ بل إنهم هم من حرفوا هذه الديانات.
تاسعًا - ليس من بقعة على وجه الأرض توالدت فيها اللغات، وتعاقبت عليها مواكبة للحضارات، وكتبت وتركت نقوشا كبلاد العرب، إنه الشغف بالعلم والمعرفة والكتابة؛ بل إن أقدم شريعة وضعية بشرية في بلاد آشور، حتى أسماء الشهور وتقسيماتها (أكادية)، انتقلت لأوروبا.
تاسعًا - إن ثمة فجوة بين المنطوق والمكتوب في كل اللغات الأوروبية، وتعاني لغاتهم من فوضى الحركات، فالـ    ” a” مثلا تقرأ مرة فتحة قصيرة، ومرة طويلة، ومرة فتحة ممالة نحو الكسر قصيرة، ومرة مثل ذلك طويلة، ومرة ضمة قصيرة، وأخرى طويلة، ومرة فتحة ممالة نحو الضم قصيرة، ومثلها طويلة، ناهيك عن كتابتها لأصوات لا تنطق، .....الخ،   وقد حسمت العربية مسألة  إهمال تصوير الحركات بنزول القرآن الكريم، فردمت الفجوة بين النظامين المكتوب والمنطوق، وكما تقول مستشرقة فرنسية مشيرة إلى ميزة العربية: "أنت في العربية تنطق كما تكتب، وتكتب كما تسمع وتنطق".
عاشرًا - ليس من لغة حية متصلة معمرة ما تزال تثمر شعرا وحكمة وتستوعب مستجدات العصر، وتجمع بين القديم العريق والحداثة كالعربية التي نقرأ اليوم بها أدباً وعلوماً وتاريخاً يمتد إلى حوالي ألف وستمائة عام، وفي اللغات الأخرى يتعذر قراءة أدب ما قبل ٤٠- 100 سنة دون ترجمة وتخصص، ومعجم تاريخي؛ مما حفظ أوابد أدبية، وفرائد لغوية، تعكس حكمة الأجداد وعاداتهم وتقاليدهم وحروبهم وشخوصهم ومعتقداتهم يتواصل معها وبها أبناؤها في كل زمان، ولذلك يوجه الغرب وأبواقهم وأذيالهم من العرب من أعشار المثقفين - ضرباتهم ومعاولهم إلى العربية خاصة؛ ليهدموا الجسر الواصل بين الماضي والحاضر، فماضينا يخيفهم، والشخصية العربية الأبية الأصيلة المثال في تراثنا لا تكاد تجد لها مثيلاً لدى شعوب الأرض، فهي ذات مروءة وجسارة وثبات وجرأة ونبل وفروسية، وهذه لعمري لو امتدت من الأجداد للأحفاد لتكونن بداية التحرر من الهيمنة الغربية والتبعية.
حادي عشر - إن العربية في ضمائرها التي تشير إلى التذكير والتأنيث والإفراد والمثنى والجمع للمذكر والمؤنث فيها من الدقة ما تعجز عنه اللغات الأوروبية، فمثلا: YOU  بالإنجليزية تستعمل للمفرد والمثنى والجمع، للمؤنث والمذكر، بينما العربية تستعمل مقابل ذلك: أنتَ، أنتِ، أنتما، أنتم، أنتن. وذلك دقة في التعبير والتحديد.
ثاني عشر - إن الدقة في دلالة الجموع وتنوعها تشير إلى عبقرية اللغة ومبتدعيها، ودقتها في تدرج دلالات ألفاظها، فمثلا: جمع (دجاجة) على (دجاجات) يومىء إلى العدد من (ثلاث إلى عشرة)، وكذلك كلمة (دجاج) جمع لـ(دجاجات)، وكلمة (دواجن) هي (صيغة منتهى الجموع) جمع دجاج، وهي مجموعات وعائلات.  فالبنية الصرفية تدل على جمع القلة، وأخرى تدل على الكثرة، وثالثة تدل على أكثر من الكثرة، ولن تجد هذه الخصيصة حتى في اللغات من أخواتها العروبيات، إنها ابتداع عربي شمالي ارتقت به العربية، وهي تنم على ارتقاء أهلها ودقتهم في تحميل اللفظ عدة معان في آن. فالعربية ابتكرها أذكياء، موجهة للأذكياء، يتقنها الأذكياء.
ثالث عشر - إن تنوع الألفاظ الدالة أيضا على قدر من المعنى المشترك في ما يعرف بالترادف ماهو إلا تلوين دلالي يشير إلى تنوعه وتدرجه، مشيرًا إلى معنى مضاف في واحدة دون أختها. فمثلا: (مات) هي اللفطة المحايدة، لكن العربية تستعمل عدة ألفاظ وتراكيب لتدل على (الموت) منها: (استشهد) التي تدل على الموت في سبيل الله مشيرة إلى منزلة الميت، و(قُتل)، تشير إلى الموت (قتلا)، و(شُنِقَ) تشير إلى طريقة الموت إضافة لمعنى الموت، و(انتقل إلى رحمة الله) إقرارٌ بالموت مع طلب الرحمة للميت، وهكذا. إن العربية تستغني بالكلمة الواحدة عن الجملة الطويلة الواصفة.  
رابع عشر - إن العرب هم من خلصوا علم اليونان من الخرافات والأساطيرالتي حالت دون تطوره، فطوروه وعلموا الغرب التفكير العقلي الموضوعي المجرد، وهم سدنة علمنة العلوم، ومن يذهب لمتاحف أوروبا لايجد لهم حضارة قديمة جدا إلا وهي من المشرق: فرعونية، وأكادية، وكنعانية، ....الخ.
خامس عشر - إن اللغة العربية بقيت لغة العالم الأولى على مدى أكثر من ألف سنة، وهي أكثر لغة لها رصيد موروث مخطوط من بين كل لغات العالم، فأكثر من مليون وربع مخطوطة موزعة في مكتبات العالم، هذا غير ما أحرق وسرق من بغداد والأندلس.
سادس عشر - لم يعرف الغرب النظافة والحمامات والصابون والقهوة والسكر والرز والبهارات والورق  إلا من المشرق، وكانت بيزنطة وروما تعيشان على القمح الحوراني، وكان تطلع أجدادهم إلى الشام والعراق واليمن والخليج من أجل هذه الثروات.
سابع عشر - إن اللغة العبرية وغيرها من الساميات ماعاشت وما كان لها أن تبقى لولا حياة العربية التي بقيت تمدها بالعلوم والفنون، فقد تعلم يهود الأندلس علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعجم وعروض من العرب، وقاسوا عليها وووضعوا علومهم على أساسها، وطبقوها على العبرية، واستعاروا من ألفاظ العربية كثيرا، وكذلك الحال في العصر الحديث. وهل يعقل أن يدرس اليهود من أعراق مختلفة وايديولوجيات مختلفة وبلغات مختلفة بلغة ميتة أحييت من معجم لسان العرب، وبطريقة تلفيقية بينها وبين اللغات الأخر لتعزز فيها فكرة الهوية لديهم، فشعارهم (عم إخاد سفا أخات)، أي (شعب واحد ولغة واحدة)، في حين يسعى بعض ساسة الأمة إلى وأد العربية وهي حية؟ ونحن من أصل واحد ودم واحد وتاريخ واحد ودين واحد ولغة واحدة ولا نجتمع إلا على ما يفرقنا؟ أليست المسألة سياسية ومرتبطة بهيمنة ووصاية غربية مجبولة بغباء مطبق وتبعية عمياء؟
ثامن عشر - كل العلوم التي انتقلت لأوروبا من رياضيات وبصريات وطب ونبات تعلمها الأوربيون بالعربية، وقد وضع العرب مصطلحات كثيرة ودقيقة لكل ما نقلوه عن اليونان، ونقلها الأوروبيون إلى لغاتهم.
تاسع عشر - ماهذا التغوّل والتوغل في الشام والعراق إلا نتاج حقد قديم موروث على بلاد الحضارة الأولى بما فيها القلم الذي هو ترجمان الروح والعقل.
عشرون - إن اللغات الأوروبية لم تنتشر لعمقها وهي العاجزة عن الاستغناء عن اليونانية واللاتينية والعربية إلى يومنا هذا في وضع مصطلحاتها؛ بل انتشرت بالسطوة والهيمنة وفرضت بالبندقية والمشنقة في مناطق كثيرة في العالم كما في ماليزيا وإندونيسيا، وغيرها بديلاً إجبارياً عن العربية؛ ليقطعوا الشعوب عن لسان دينهم.
الحادي والعشرون - إن الشعر العربي ليس بالسهل الذي يعتمد على القافية بين الحين والآخر كالشعر الأوروبي، فالنظام الموسيقي الذي يعتمد على الساكن والمتحرك إضافة إلى نظام الشطرين الدقيق، مع القافية في الكلمة المناسبة في حد ذاتها تحد كبير جدا للعقول، ويحتاج إلى ملكة لغوية فائقة، ناهيك عن أن هذا فقط ليس الأساس الذي تنسج عليه القصيدة؛ بل إن المحتوى التخييلي والحكمة والقيم والعاطفة والتضاريس والأنواء وطباع الحيوان وأسماء أعضائه ومستلزماته، والأسلحة وأنواعها، والصحراء وتنوعاتها، واللغة المركزة لا تصدر إلا عن عقلية فذه مجربة خبيرة، لا سطحية ولا آنية كما أراد أن يراها رينان. ولوجمع الشعر الأوروبي عبر عصوره إلى اليوم ما عدل نصف ديوان من دواوين الشعر العباسي.
والحق أن من أسباب تخلفنا العلمي في العالم العربي اليوم هو فرضهم علينا التدريس بلغاتهم مقابل ما يسمونه منحاً، وهي كما تعلمون قروضًا ربوية ميسرة، وذاك ليفرضوا علينا التبعيّة الفكرية لهم. ولن تتحرر الأمة إلا بتحريرعقول أبنائها، ولن تتحرر عقولهم إلا بتعريب لسانهم، وقلوبهم. واعتزاز الأمة بلغتها هو مؤشر حقيقي على تقدمها، وعزوفها عنها هو عنوان ضياعها وانكسارها وتخلفها وتبعيتها.

تعليق عبر الفيس بوك