في وصف الصحراء

 

أ.د/ حاتم الصكر – جامعة صنعاء

...........................

تقدم نصوص الرحلة نموذجا دالا للوعي والشعور المسقطين على المكان.فالرحالة لا يهمه وصف المكان خارجيا بل بما يحمله من دلالات وما يوحي به وقت كتابة نص الرحلة .هكذا لا تكون المدن والأمكنة الأخرى  موجودات جغرافية  أو مفردات محايدة يمر بها البصر ليرصد ظاهرها . عكس ذلك ينتقي الرحالة في نصه عن المكان ما يشخصه فيه ويعيد تشكيله أدبيا ،ويغدو نص الرحلة كنص السيرة الذاتية الذي يؤرخ للوقائع بتوجيه الذات وبعرض أسلوبي خاص، فيما ينبني نص الرحلة 

 على رصد الأمكنة ومتابعة جماليتها وثقافاتها برؤية ذاتية لذا يكون عناء الرحلة شخصيا . لايمكن لجماعة أن تؤلفه لأن المرتحل واحد وإن واجه أو صادف جماعة ، وهو لا يبحث عن المكان مجردا أو مطلقا ..يبحث عنه مأهولا ومتعينا لحظة ملامسته بصريا ،ما يوجب الربط بين المكان وكائنه.

وكما أن السيرة الذاتية لم تعد تعني رصد حياة حافلة بالنجاحات والمنجزات أو ترصد لحظات التفوق والرخاء في الحياة الشخصية ، فإن نص الرحلة لا ينحصر فقط في عرض الأمكنة الكبرى التي تأخذ أهميتها من دلالاتها المعاصرة  أو الحضرية او الأثرية أو الطبيعية ، ولكنه يمس كذلك فضاءات متاحة قد تكون على هامش المدنية والتحضر، أو بعيدة في الجغرافية المتيسرة ،أو فاقدة التأثير في التجمعات البشرية أو التكوينات المدنية.

 وسيكون مثالنا على إعادة تشكيل المكان بوعي ذاتي يرتبط بالذاكرة الشخصية والرؤية الجمالية للفرد، من رحلات الصحراء والغوص في دلالاتها .

يجهد الرحالة كي يحيطوا بما يرتحلون له  في فضاء الصحراء أن يعتصروا حواسهم كلها: يبصرون ويسمعون ويشمون-ترابا أو سرابا-ويتلمسون طرقا ونياسم وصوى ؛ حجارة أو شجرة أو أثرا لعابر حي أو نجمة تلتمع في بيتها السماوي، وبرقا ينهض من عتمة وغيمة تشرد لتنزف ماءها  عابرة كالرحالة نفسه ذاك الذي يعلم أن لحظة لقائه بأفق الصحراء الممتد واللانهائي والمتناظر آنا أو المتلون  هو في حقيقته مناسبة لتشكيل صحراء أخرى تحف بهيئتها قناعات وصور مستقرة في الذاكرة  يعضدها الخيال..رحالة الصحراء  مرتحلون ويدهم على القلب تتابع ما تهبه الصحراء للعين من مرائي  وأشكال؛ ففي كل ركن مفاجأة أو تحد أو خطر.لكن الروائي السوري خليل النعيمي القادم من ذاكرة بلاد الشام وحاضر المدينة الأوربية-باريس حيث يقيم-

 والمستفيد من تجارب روائية  يقدم لنا قراءة للصحراء، تؤطرها السردية التي لا يفكها عن وصف ما تقع عليه عيناه ؛فيكون نصه حافلا بالأحداث وصلة الذات بالمكان والرحلة والرفقاء أو المرافقين ،وقبل ذلك يتنبه لوجود البشر في ذلك المكان ودلالة غيابهم عنه أحيانا، وعنف تضاريس الصحراء، والكينونة الشاسعة والمترامية لها والمفردات الحافة بها من ريح ورمل وطير ووحش وعتمة وضوء ..سماء ترتفع لتراقب الكائنات الغائبة عن احتوائها غالبا أو تلك المتسربة إليها عابرة في فضول التعرف وشغف المحب وكذلك في حذر العابر وحلم الخروج.

يقول النعيمي في نص عن رحلة في صحراء نواكشوط التي تقبع في الذاكرة وتجتر حضورها من وحي الماضي وعزلة الحاضر في المغرب القصي:

((الصحارى مدن. مدن عماراتها الكثبان، وشوارعها الوديان، ملكتها الشمس، وسيدها القمر، رقباؤها النسور، وقادتها الأسود. حكماؤها الثعالب، ونساؤها الغزلان، تجوبها الريح بلا تمييز, ويصعقها الضوء بلا رحمة. سكانها شتى ومؤتلفون. يجمعهم ((حب البقاء))، ويفرقهم الجوع)).ولعله بهذا الإيجاز البليغ يعرفنا على ما يؤثث صحراءه، ويكسو جسدها المكشوف للمعاينة والتأمل. وبكونه قادما من مدينة سيبحث عما يناظرها في الصحراء التي غدت في رؤيته مدينة: لها عماراتها وشوارعها وبشرها وكائناتها الحية. ولكنْ تخبئ طياتها ايضا سكاناً  شتى يكابدون الحياة فيها وغائلة الجوع الذي يفرقهم ليبحثوا عن زاد، هو في أبرز معانيه: التشبث بالحياة واستمرارها وفق ما تفرضه طبيعة الصحراء وحاجة البشر.

في شهادة عن نصوص الرحلة التي جمعها إثر أسفاره المتنوعة شرقا وغربا ونشرها في كتب ، يقول النعيمي ((عندما نسافر تغدو ذواتنا بِيضاً ، مثل صفحة جاهزة للرقيم. لا تعود مزحومة بالسكون والبلادة، وإنما تصير تتَلَهّفُ لِلُقْيا الطريق. تغدو قابلة لكي ترى، وتحس، وتعبّر عما رأت وأحسَّتْ.))فهو يربط  السفر بالذات التي تتشوق للقيا الطريق صوب ما تسافر إليه وبالحواس المستيقظة في الذات ويختم بربط ذلك السفر والتلهف والإحساس ، وينهي سفره بالتعبير عن الرؤية والحس المنتجين عن تلك الملازمة للمكان والغوص في طبقاته. والنعيمي يراهن على امتداد أثر السفر- وهوالتكييف المعاصر لمفردة ودلالة الرحلة- وتعديه لافعال أخرى ترتبط بذاكرة المسافر وعلاقته بالمكان قديما وذلك يجعل المكان ذاته يبدو في هيئة جديدة ويناله التجدد المفترض في السفر كما اقنرنتا منذ القديم، ولخصهما أبوتمام في دعوة لللتجدد عبر السفر والاغتراب لأن طول المقام في مكان واحد يتلف الروح والجسد.

 يقول النعيمي ((عندما نسافر لا نتجدد نحن، فقط ، أمكنتنا التي تركناها، هي الأخرى، تتجدد، وربما أكثر منا. أن نسافر هو أن نقع، من جديد، في حب أمكنتنا الأولي، وأن نصير نعي هذا الحب الذي أهملناه ونحن نقيم ببلادة فيها.))

بهذا تصبح نصوص الرحلة وكتابات الأسفار مجالا لعرض الذات لماضيها مقترنا بماضي المكان ولعل هذا ما يبرر ويدعم ما نفرده للرحلة ونصوصها  في مؤلف عن السيرة الذاتية .النعيمي يشير لصيرورة تمر بها الذات عبر التماس بالمكان ومعايشته.وهذا ما نحاول تعقبه وإبرازه أو الإشارة إليه في نصه عن صحراء نواكشوط التي جذبته رمالها فغاص فيها نصه .

يتعرف القارئ اولا على زمن الرحلة ومكانها وعلى الموجودات التي يصادفها  الكاتب : أسباح الملح والأغنام والبيوت البسيطة والرمل..الرمل مادة الصحراء  التي ستكون نورا في بصر الشاعر، وهو يرصد اصطفاف كثبانه، وتناظر كتله المخيفة وما تكنسه الريح وتذهب به . عناء الصحراء يمتد للغة النص عبر الحواس، يتوقع الكاتب بحرا يشم ريحه من بعيد وذا ما يجعل النص أكثر وءا في مقاطعه التالية للمقدمة. ثمة وعد لعابر الصحراء بالماء الذي سيب الرمل المترسب في الأعماق عبر وجوده على أديم الصحراء.لكن الشمس تتعثر في السماء ليرد لها الرمل وهجها ويمتص شعاعها فتغرب حزينة وتسلمه للماء المتكون سرابا والقابع في المخيلة والحواس.

يلامس النعيمي البشر في أسفاره .ثنائية المكان والكائن وهذا ما سيخصص له جزءا كبيرا من نصه الصحراوي.الحواتون القادمون من رحلات الصيد عائدين لبيوتهم بأسماك اطلعت الشمس روائحها هم مادة لتأثيث الصحراء بما هو موحش. ولتأمل عودة البشر منهكين بأسماكهم الميتة  يذهب النص لتأمل الذات الراصدة فينشئ النعيمي حوارا مع النفس (( صرت أحس, أحس أنني »تأخرت« كثيرا في حياتي! وأنه لا جدوى من تقدم« مقتصر علي ، وحدي. أيكون الاحساس، لا المعرفة،هو أصل الوجود الواعي إذن? ألهذا ترانا نحس من نحب، ولا نحس غيره? أيكون لعودتي إلى مساطب الحواتين، للمرة الثالثة، خلال يومين بعد آخر، أبعد مما أرى)).

الصحراء في نص النعيمي تبعث على الغوص لا في رمالها فحسب وامتداد أفقها بلا نهاية، ولكن للغوص في الذات وإحساسها المستثار عبر التأمل.

بالسرد والحوار الداخلي وتنشيط  المخيلة والذاكرة وتداعيات الوصف يقاوم  النعيمي جفاف الصحراء وبؤس مشاهدها المتمثلة لا برملها وريحاها وشمسها  فحسب،بل بعناء الحواتين العائدين من البحر إليها ما يزيد عناءهم وينعكس على الذات المتأملة.

لكن النعيمي مفتون بالصحراء أيضا ؛فهي ككل  مكان أو كائن أو موجود لها جمالياتها التي تتبدى للحواس؛ فتعبَر عنها بعد تمثلها.الحواتون يمتلكون(إرادة الحياة) التي تتفوق على (إرادة المعرفة) التي يأتي بها الرحالة  مدججين من مدنهم وحيواتهم الممتلئة؛  ليواجهوا هذا الامتداد الرملي للصحراء...امتداد يملأ فراغها ،ولكنه يظل يكسوها كجلد لا تنزعه إلا بالغروب الموشّح بالظلمة ؛ لتعود إليه مع خيوط الشمس المتعجلة فجرا ...رمل يسيل على الأفق كله .الصحراء فضاء من رمل .  الصحراء تصبح بعد الليلة الأولى صديقة ، والمسافر (يصير) بتعبير خليل النعيمي أي يتحول .وسوف يمجد الصمت الباعث للتأمل في فضاء الصحراء((لا شيء يملأ العين سوى الصحراء،هنا تدرك لم يسكن الزهاد في الصحارى والقفار،هم يفعلون ذلك ليروا العالم، كله ليستوعبوه،دفعةواحدة،...))، ثم ستصبح للرحالة السارد امنية لعلها شطح شعري لكن دلالة مجيئها في خاتمة وصف الصحراء واستيعابها تجعلنا نورده هنا.يتمنى الكاتب أن يستقر في الصحراء  أبديا  بترميز علاقته بها بعد الموت((لا تدفنوني عندما أموت. ولا تحرقوا جثتي كالمجانين، إلقوني عاريا في الصحراء. دعوا وحوشها الكاسرة تنهشني، وتذرو رمالها الصفر على جبهتي، وحولي تتطاير أشواكها الوخازة كإبر .دعوا نسورها تنتف أحشائي،وفوقي تمر أفاعيها الرقط ساحبة أجسادها المخروطية الملس. أريد أن أتحلل كما تركبت،أن أتفتت كما تكونت، أن أعود إلى حيث كنت، أن تحضنني أمي الصحراء، كما فعلت أول مرة)). لقد عرف في الصحراء أماً يتشهى العودة إليها، والاستراحة ربما من الرحلة الأكبر التي تنطوي عليها الحياة والتي تكون الصحراء أحيانا أكثر رأفة بنا منها.

 

(((((  ففههو يربط السفر بالكتابة أولا  ))

تعليق عبر الفيس بوك