موقف حكومة الهند البريطانية من النمو التجاري العماني (1750 ـ 1800)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان


.........................................

       أدى الموقع الجغرافي لميناء مسقط ـ من خلال كونه في مسافة وسط بين شبه القارة الهندية وشرق أفريقيا ـ لارتباط تجارة عمان بموانئ تلك الأقطار لاسيما موانئ الهند ذات الثروات المتعددة. وحيث أن شركة الهند الشرقية البريطانية كانت هي المهيمنة على الهند كان من الطبيعي إذن أن تدخل عمان مع هذه الشركة العملاقة في علاقات تجارية متينة، وكانت الشركة مهتمة بتنشيط التجارة مع مسقط  فقد ورد في التقرير المشترك لقنصليها في البصرة وبغداد مانيستي وجونز المرفوع إلى الشركة في عام 1790 أنهما يتوقعان ازدهارا أكبر لمسقط، وأشارا أيضا إلى خطورة محاولة الفرنسيين تأسيس وكالة تجارية لهم في مسقط.

تجدد الصراع البريطاني الفرنسي في عام 1793، وكانت فرنسا آنذاك على علاقة وطيدة مع السيد سلطان، مما جعلها ترغب في تحقيق المزيد من الفوائد التجارية فقررت في أواخر سنة 1794 إنشاء قنصلية لها في مسقط لتولي مهمة توسيع التجارة مع الهند وايل دي فرانس،ورشحت لذلك المنصب جوزيف دي بوشانJoseph de Beauchamp. وعندما علمت حكومة بومباي ببعثة بوشان خافت على مصالحها في المنطقة، حيث يمكن لفرنسا أن تستخدم الميناء ملجأ لسفنها التي تهاجم السفن البريطانية في ميناء المحيط الهندي وهو الأمر الذي يهدد التجارة والاتصالات البريطانية.

بادر حاكم بومباي بالكتابة إلى السيد سلطان بتاريخ1/7/1796 مذكرا إياه بالفوائد التي تنالها عمان من تجارة الهند،ومحذرا إياه من نوايا الفرنسيين، وفي الوقت ذاته فرضت حكومة بومباي ضريبة قدرها 2% على كل الصادرات غير البريطانية من ميناء سورات إلى الخليج العربي،وذلك بهدف الحد من نشاط مسقط التجاري. ومع ذلك استمرت العلاقات التجارية العمانية الفرنسية مزدهرة، وقد يعود ذلك جزئيا إلى المساعدة التي قدمها طاقم سفينة حربية فرنسية كانت ترسو في ميناء مسقط حينما لجأ اليها السيد سلطان في عام 1782، مما ترك ذلك انطباعا جيدا عن الفرنسيين لديه.

شهدت الأوضاع بعدئذ تحولا مهما، فقد دخل بونابرت بجيوشه إلى مصر في 25 يوليو1798 وعندها قامت الدنيا ولم تقعد عند البريطانيين، وبدأت الإدارة البريطانية في الهند ترسم خططا جديدة للحيلولة دون امتداد الخطر الفرنسي إلى الهند، ولم تمض على ذلك الحدث الجلل سوى ثلاثة أشهر حتى أرسلت حكومة بومباي مهدي علي خان (وهو فارسي يعمل مقيما لشركة الهند الشرقية الانجليزية في بوشهر) إلى مسقط في أكتوبر 1798  لتوقيع معاهدة مع السيد سلطان لمنعه من السماح للفرنسيين بإنشاء أي مركز لهم في مسقط أو في اي مكان آخر تابع له ، في مقابل حصول حكومة سلطان على مميزات تجارية منها الإعفاء من تكاليف أجور رسو السفن العمانية في الموانئ الهندية، وتزويدها بحاجتها من الماء والأخشاب مجانا، والسماح لها بتصدير كميات من الملح سنويا إلى البنغال وكلكتا.
وافق السيد سلطان على الطلب البريطاني ووقع الاتفاقية لأنه كان يدرك أن بريطانيا مدفوعة باعتبارات سياسية استراتيجية واضحة، إلا إنه لم يعرض علاقة بلاده للقطيعة النهائية مع الفرنسيين، فلم يسمح بتأسيس وكالة تجارية بريطانية في مسقط بحجة أن ذلك سيؤدي إلى تورطه في حرب مع فرنسا، وسيترتب عليه إلحاق الضرر بالمصالح العمانية في شرق افريقيا، ولكنه أبدى تساهلا مع الانكليز فيما يخص إعادة تأسيس وكالتهم في بندرعباس إن رغبوا في ذلك، في حين أنه رفض طلبا مشابها تقدمت به كل من فرنسا وهولندا. ولم تكن موافقة سلطان على إمضاء الاتفاقية التي ربطته مع شركة الهند الشرقية الانكليزية في عام 1798 ناتجة عن موقف ضعف، فقد كان يسيطر على جانبي مضيق هرمز، واستطاع أن يتولى الإشراف على دخول السفن إلى الخليج العربي، واستغل هذا الامر في فرض نظام مروري ذي طابع برتغالي حيث طلب من كل السفن المتجهة إلى الخليج التوقف في ميناء مسقط لدفع ضريبة الحماية.

استمر السيد سلطان بعد معاهدة عام 1798 في علاقاته التجارية بالفرنسيين، وفضلت السلطات البريطانية في الهند أن تتغاضى مؤقتا عن تلك العلاقات خوفا من أن يؤدي كثرة الضغط على السيد سلطان إلى تحوله إلى الجانب الفرنسي،غير أن تطورات الوضع السياسي في المنطقة حتم عليها لاحقا الوقوف بحزم أمام تلك العلاقات، فقد وقع في يديها في 1799 رسالة من بونابرت إلى السيد سلطان وبضمنها رسالة أخرى إلى تيبو صاحب (حاكم ولاية ميسور الهندية) يدعوهما إلى الوقوف ضد الانجليز، وعندها زحفت القوات البريطانية في الهند وقضت في العام ذاته على حكم تيبو صاحب، وفي خطوة موازية أرسلت حكومة بومباي الكابتن جون مالكولم إلى مسقط لتجديد اتفاقية عام 1798، وأن يتعهد سلطان تعهدا تاما بقطع كل علاقاته بالفرنسيين، وقد وافق سلطان على عقد الاتفاقية الجديدة في 18 يناير 1800 مقابل حصوله على مزيد من التسهيلات التجارية.  وبهذا فقد حسم أمره نهائيا فيما يتعلق بالصراع البريطاني الفرنسي بانحيازه للبريطانيين كونهم الأرجح كفة لا سيما بعد هزيمة تيبو صاحب، و الخروج المذل للفرنسيين من مصر في يونيوعام 1801. وعندما حاولت فرنسا في 1803 أن تؤسس قنصلية لها في مسقط كان الوقت قد فات.

لم يكن التخلص من النفوذ الفرنسي في المنطقة الهدف الوحيد للإدارة البريطانية في الهند، بل كانت هناك أهداف أخرى من أهمها: فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية، وعدم السماح للقوى المحلية ـ لا سيما العربية منها ـ أن تنافسها في هذه المنطقة. وقد حدثت تطورات تتعلق بالشركة البريطانية في الهند في مطلع القرن التاسع عشر فبعد القضاء على المناوئين المحليين لأنشطة الشركة في الهند توسعت إدارة بومباي، وأصبحت تتحكم في تدفق البضائع إلى الأسواق، كما حدث تغير في مراكز وأشخاص مجلس إدارة الشركة في لندن سمح لإدارة بومباي بدرجة أكبر من الاستقلالية عن مجموعة تجار القطاع الخاص الذين كان لهم نفوذ واسع في مجلس الإدارة، وكان مجلس إدارة الشركة يحمل وجهات نظر مخالفة لوجهات نظر تجار القطاع الخاص البريطانيين فيما يتعلق بأنشطة الشركة في الخليج العربي والمحيط الهندي، فمجلس الإدارة كان يهتم بتحقيق أهداف سياسية واستراتجية في المقام الأول، بينما القطاع الخاص كانت لا تهمه هذه الاعتبارات بقدر ما يهمه تحقيق العوائد المالية. وهكذا أصبح مرجحا أن تتقاطع وجهات نظر الطرفين حول دورمسقط التجاري في المنطقة، لا سيما أن النشاطات التجارية للشركة وللقطاع الخاص في المنطقة أصيبت بالركود في الربع الاخير من القرن الثامن عشر، وألقى تجار القطاع الخاص البريطانيون باللائمة على التجار العمانيين في حصول الركود التجاري لهم، وحمـّلوا الشركة المسؤولية في ذلك لأنها سمحت ببيع السفن الكبيرة للعمانيين، وتغاضت عن شراء التجار العمانيين سفنا بريطانية وقعت في أسر الفرنسين، كما أنها سمحت ببناء وتصليح السفن العمانية في بومباي، ومنحت بعض التجار العمانيين رخصا قانونيا للتصدير ، وأنها لم تعمل شيئا إزاء قيام أولئك التجار بشراء الحرير والسكر من باتافيا وكالكتا بدلا من شرائها من سورات وبومباي، مما أدى إلى انخفاض العائدت من الموانئ الهندية الغربية. وقد لاحظ تجار القطاع الخاص أيضا أن السفن العمانية كانت تشحن كميات كبيرة من البضائع من الموانئ الهندية وتلك الزيادة الكبيرة لم يكن لها في نظرهم مايبررها، طالما أن طاقة استيعاب الأسواق المستهلكة في عمان والخليج والمناطق المجاورة لم يحدث عليها تغيير.

كان لدى إدارة الشركة رؤية أخرى للنقاط التي أثارها تجار القطاع الخاص فيما يتعلق بتجارة مسقط، معتمدة في ذلك على آراء ديفيد ستون المقيم البريطاني في مسقط، وتتلخص تلك الرؤيا في النقاط التالية:
أ- إن بيع السفن للعمانيين جلب أرباحا لميناء بومباي وأدى إلى ازدهار التجارة فيه لأن العمانيين كانوا يستعملون تلك السفن في نقل البضائع من وإلى هذا الميناء، بالإضافة إلى أعمال صيانة السفن التي كانت تجلب عوائد إضافية. ومهما يكن فإذا لم يحصل العمانيون على السفن من بومباي فإنه كان بإمكانهم الحصول عليها من أماكن اخرى.
ب- الركود الاقتصادي الذي تعاني منه الشركة وتجار القطاع الخاص له أسباب متعددة من بينها الظروف السياسية غير المستقرة للمنطقة، ونقص السيولة النقدية، وعدم نشاط التجار البريطانيين في شحن ونقل البضائع. ولا يمكن لوم على العمانيين بهذا الشأن.
ج- النظام التجاري الحر يمنع الشركة من إجبار تجار أي أمة من الأمم أو قطر من الأقطار على شراء البضائع من موانيء أو جهات محددة.
د- منح الرخص التجارية للسفن العربية والعمانية كان محدودا جدا، وتم العمل بهذا النظام من أجل منع التجار العمانيين من الحصول على رخص تجارية فرنسية، وهذه مصلحة سياسية أكثر منها تجارية.

رغم هذه التبريرات التي قدمتها إدارة الشركة إلا أن ذلك لا يعني تسليمها ضمنيا بتفوق عمان التجاري، بقدر ما كانت رؤية حقيقية للواقع أرادت من خلالها دراسة مواضع الخلل حتى يمكن إضعاف الدور العماني. وقد برزت هذه الفكرة لدى إدارة الشركة عندما أوفدت مالكولم في مطلع 1800 لعقد اتفاقية مع السيد سلطان والحكومة الفارسية لتفادي الأطماع الفرنسية في المنطقة، وكانت من ضمن أهم أهداف بعثة مالكولم البحث عن أنسب موقع في الخليج العربي لتأسيس قاعدة تجارية للشركة، على أن تتوفر في الموقع كل المزايا الاستراتيجية والتجارية والأمنية، وبعد رحلة من التقصي والبحث الدقيق أرسل مالكولم تقريرا مفصلا إلى الحاكم العام البريطاني في الهند بتاريخ 26 فبراير 1800.

استعرض مالكولم في تقريره مزايا وسلبيات كل موانيء الخليج إلى أن توصّل إلى أن جزيرة قشم الواقعة عند مدخل الخليج تمثل المكان المثالي لبناء القاعدة لتوفرها على عدد من المرافئ المهمة منها (لفت) في طرف الجزيرة الشمالي، والذي وصفه بأنه من أحسن موانئ الخليج. وفي الجنوب يوجد الميناء الذي تشكله جزيرتا (أنغر) و(هنجام) حيث أوصى مالكوم بأن تنشيء الشركة مستوطنة فيه للأهمية البالغة، إذ تستطيع كل سفينة مهما كانت حمولتها أن تدخل وتخرج من الميناء بسهولة دائما ، كما يتيح موقع الميناء الفرصة لمراقبة كل السفن التي تدخل أو تخرج من مياه الخليج. أما أخطر فقرة في التقرير فهي الفقرة رقم83 التي يصرح فيها مالكولم : " إن من شأن بناء القاعدة التجارية في (قشم) أن يحول التجارة إليها مباشرة دون الحاجة للمرور على مسقط، وسوف لن يتحمل تجار مسقط منافسة المزايا الكبيرة التي يقدمها الميناء الجديد الذي سيوفر للسفن العربية والفارسية الصغيرة عوائد مالية من خلال النقل والشحن، مما سيؤدي إلى سحب البساط من تحت أقدام تجار مسقط. وتنبأ مالكولم بأن القاعدة البريطانية الجديدة سوف تستوعب كل التجارة إلى الخليج في زمن ليس ببعيد".

     وطوال سبعة وعشرين عاما أعقبت تقرير مالكولم لم تستطع الإدارة البريطانية في الهند إرساء القاعدة التي اقترحها مالكولم وذلك لأسباب عديدة. ولكن هذا المشروع بحد ذاته كان دليلا قاطعا على النوايا الحقيقية للإدارة البريطانية في الهند ليس تجاه العمانيين فحسب بل تجاه كل العرب الآخرين وكل القوى المحلية.

تعليق عبر الفيس بوك