المجاز في "يطلي حروفه بالضَّجر"

...
...
...

إبراهيم موسى النحـّاس – مصر


.....................
في مقال للأديب المغربيّ عبد الجبار السحيمي بعنوان (انطلاقاً من موسم الهجرة ) يقول : (في عديد من المؤتمرات الأدبية تسمع نفس الكلام من المثقفين والنقاد المعروفين ,فهم يسبقونك دائماً بتبرير عدم اطلاعهم على النتاج الفكريّ والأدبيّ الذي  يأتي من الجناح الغربيّ للوطن العربيّ ..وحين تتكرر نفس الحالة فإن الأمر يعني أكثر من خطأ صادر عن حسن نيّة بقدر ما يعني أنه إدانة وأنه تعرية للإقليمية التي تطبع الواقع الأدبي العربي) (1) هذه المقولة تحتاج إلى المراجعة عند التعامل مع ما يصل إلينا من نصوص من المغرب العربيّ, فالمسألة لا ترجع إلى سوء نيّة بقدر ما أراها مردودة إلى عدم قدرة عدد كبير من الأدباء العرب على كسر الحواجز والحدود الجغرافية لخلق الاحتكاك المباشر من خلال الندوات والمؤتمرات الأدبية وإن نجحوا في كسر تلك الحواجز عن طريق الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي ووسائل النشر الإلكتروني مما يؤكد أننا مازلنا في حاجة إلى استمرار الاحتكاك والتواصل الفكريّ والثقافيّ المباشر خارج حدود الإنترنت رغم كثرة العقبات . وديوان (يطلي حروفه بالضجر) للشاعرة أمينة الصنهاجي الذي نجح في تجاوز الحدود الجغرافية وكسر الإقليمية السلبية التي تحدث عنها الأديب المغربي عبد الجبار السحيمي.
وعنوان الديوان هو أولى عتبات النص وفهمه, يوحي إلينا أننا سنكون أمام ذات متمردة رافضة (الضجر) كما يواحي باهتمام الشاعرة بالصورة الشعرية واللغة (يطلي حروفه بالضجر) صورة مجازية استعارية تؤكد أن اللغة والمجاز سينالان الاهتمام الأكبر في ذلك الديوان.
ويحمل الديوان – كعادة الديوان الأول – تمرد الذات الشاعرة وضجرها ورفضها لواقع غير مثاليّ مُعاش, وموقف الذات من هذا الواقع الذي يدفعها إلى الحزن تارة والاغتراب تارة أخرى والصمود والتحدي والإصرار على مواجهته:

تتحرك بدفة مصلوبة الأطراف
تتفقد جهات النزف لتتأكد
أن كل بارقة للبوح قد تعرّت
من معطفها الرجيم
تمضي بإصرار سهم فارق قوسه قبل الأوان
يتقاذف الهواء الاحتمالات الطائشة
لنقطة رسوك المرتجاة
يرتبك المدى من خطوات ملغومة
لم ينفجر سكونها بعد
وبين الحيرة والظن,يعشوشب
عالم دمع سحيق.(2)
     
وقد يدفع الشعور بالحزن تجاه هذا الواقع إلى التعبير عن اليأس ليس باعتبار الذات السلبية الضعيفة ولكن باعتبار الشعور باليأس حالة إنسانية ترتبط بموقف ما:
 لم يبق لنا عمر
كي نزيح الوقت
عن الدقيقة العطشى
لتشيخ فيه البسمة
الراضية
لم يبق لنا عمر
كي يندى
الكف
في الكف
وتدمع العين
في العين
وتهدأ
اللحظة الواجفة. (3)

وتؤكد أن الحزن دافع للتمرد حتى لو كانت نتيجة التمرد والرفض هي الموت :
حين يقايض الدمع الرغبة
حين يواريهما بخيل المداهنة
يطل التمرد بمكر برئ
يخاتل الحد المستقيم
ليلون المرآة المترعة بالسقوط
فتنتفض الحياة
وتعلن أن الموت خلود نبيل..( 4 )

ولا تتعامل الشاعرة مع اللغة باعتبارها وسيلة للتعبير عن رؤيتها فقط بل باعتبارها ملجأ وملاذ وغاية أيضاّ . وهنا يستطرد بول فاليري في كتابه ( الشعر الصافي ) الحديث عن اللغة قائلاً : ( إن اللغة مهما تكن شخصية ,وطريقة التفكير بالكلمات مهما تكن قريبة إلى نفوسنا فإن لها مع ذلك أصلاً نفعياً ولها غايات عملية خالصة ,ومن هنا فإن مشكلة الشاعر هي أن يستخلص من هذه الأداة العملية وسيلة لخلق عمل هو في جوهره غير عمليّ ) (5).
وتدرك الشاعرة قيمة اللغة والحرف كما في قصيدة (شوق):

أعطني حرفاً
يختزل مسافات الحنين الممتدة
علّه يحمل وشماً سكن فيه عمرك
لو يؤازرني هذا الفقد المنغرس
في دمي بالغياب .
 
لو يؤازرني بالغياب
لتسيّدتُ صهوة الكلم الملون
كفراشات الربيع. (6).

كما تتساءل في نفس القصيدة قائلة : (بأي لغةٍ أسمع الريح؟) وتستخدم كلمة (البياض) كرمز للخرس وعدم الكتابة وفضاء الصفحة:

انثرني شظايا حروف
أسكرها البوح
فتاهت على حواف السريرة....
تمتص رحيق الجرح لتفيق.
إن هذا البياض يخترق الرغبة
مقهقهاً من خرس يكبّلها
فكيف ينسكب عليه النبض ولا يتوب
شتاتاً أكون....حين يشرئب المآل.... (7)

وترسم الشاعرة لوحة فنية للغة ترفع من قيمة الحرف على حساب المعنى فتتمثل رؤية الشاعرة تجاه اللغة بأنها لا بدّ أن تتحرر من أيّ قيد:
لماذا يبهت الحرف تحت معطف المعنى
ويكابر اللفظ
لتشمخ أيها البوح عارياً
متقداً
ولتحترق كل الأساور
والألوان
فاللغة أنثى ألِفت التسكع
على أرصفة الجنون
الزهو على أوتار القيد,
رقص الجمر,
الضجر..... (8).

يجب أن تكون اللغة على هذا النحو السابق حتى وإن بدت في لحظةٍ ما مكسورة الجناح كما وصفتها قصيدة (بياض):

للبياض رعشة الغواية البكر
يشق المرايا ليتذوق طعم سواد
ينعش اختناقه بالضوء
يتخفف البياض من نوره
المشبع بالصعود..
واللغة المكسورة
الجناح والظل .(9 )

وكأن الديوان يحمل رؤية ثنائية تقوم على التمرد والضجر: الأولى تمرد على الواقع , والثانية تمرد فنيّ يؤمن باللغة المجنونة المتمردة المتحررة من أيّ قيد . وقد بدا التمرد في المستوى الأول يشبه الثورة الناعمة فهو تمرد يحمل صفة الهدوء بلا انفعالات أو ضجيج وكأننا أمام حالة روحية صوفية يعتريها الحزن كما وصفنا البعض:(نحن أمة تربى وجدانها في ظلال حضارة الروح والخلق فرقت مشاعرها وترهفت أحاسيسها وأصبحت أمّة غنائية عاطفية تبكي لأفراحها كما تبكي لأحزانها حتى ارتبطت دموعها بصدق الإحساس وصفاء الشعور وعمق الانفعال بالأحداث والمواقف) (10).

لكن التمرد الثاني – ونقصد به التمرد على اللغة – كان التعبير عنه أكثر ثورية,وأعلى صوتاً يجعل من اللغة أنثى ألِفَت التسكع على أرصفة الجنون,لغة على هذا النحو تقوم على التأويل والصورة:

بصبر رتيب
يتوارى المعنى أمام لغة
تنتشي بها الاستعارات
يلملم البياض حياده
ينتصر التأويل .(11)
       ودون وجود إهداء للديوان – وهذا يطرح علامات استفهام كثيرة – تنجح الشاعرة في التعبير عن رؤيتها النقدية والفنية حول القصيدة,رؤية تقوم على الانحياز للغة والصورة الشعرية ,في قصيدة تتبرأ من اللهجة الخطابية والتقريرية وتطلي حروفها بالضجر والتمرد على القديم .
________

الشواهد :
1-    انظر (الأدب العربي المعاصر في المغرب العربي) د. سيد حامد النسّاج الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1985ص12 وانظر أيضاً مقال (انطلاقاً من موسم الهجرة ) أ . عبد الجبار السحيمي . الملحق الأسبوعي لصحيفة العلم عدد 28/4/1972ص3
2-    ديوان (يطلي حروفه بالضجر) أمينة الصنهاجي الحسيني. مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة . القاهرة.ص46-47
3-    الديوان ص30-31
4-    الديوان ص5
5-     (الشعر الصافي) بول فاليري. ترجمة أسعد حليم .منشورات مكتبة نهضة مصر ص24 القاهرة.وانظر أيضاً (استشراف الشعر) د. صبري حافظ الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1985ص41
6-    الديوان ص15
7-    الديوان ص24
8-    الديوان ص26
9-    الديوان ص11
10-    (حركة التجديد الشعريّ في المهجر) د. عبد الحكيم بليع. الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1980ص140-141
11-    الديوان ص7

تعليق عبر الفيس بوك