المصلحون والصالحون وما بينهما

محمد عبد العظيم العجمي - مصر


لا تزال الحياة تنبض بالخير وتثمر ما دوت فى جنباتها دعوات المصلحين، وما وَجَدَت لها صدى فى نفوس المدعوين وإلى قلوبهم سبيلا، حتى إذا غَلُفَتْ (من الغلف) قلوبُهم وصارت فى أكنة مما تُدعى إليه، أو توقف نبع هذى الدعوات وجفَّ معينها ويئسَ أصحابُها من الاستجابة إلى ما يدعون، أوشكت الحياة أن تنقضى أو يهلك أهلها. وليس هذا رجمٌ بالغيب أو ادِّعاء لا يقوم عليه دليل، إنما ذلك سُنَّة ربانية أرضية ونبراس كونىَ " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (سورة هود - 117). وتلك هى القاعدة.. وذلك أن هلاك الأمم وفناءَها متعلق بوجود المصلحين فيها، فهم قوام الحياة وموازين العدل وأمنة من العذاب (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ  وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ" (سورة هود -116) ".
وإزاء هذه السُّنَّة الكونيّة ينقسم الناس إلى فريقين لا ثالث لهما: فأمَّا الفريق الأول فهم "جماعة المصلحين" الذين يحملون على عاتقهم تبعات هذه الدعوة وعبَّأوا نفوسهم لهمّ، ويالها من دعوة تنوء بحملها الجبال الرواسى، أمّا الفريق الآخر فهم "المترفون" كما صنفهم القرآن ومن يتبعونهم من ضعاف النفوس والأخلاق الذين تماهت ذواتهم حتى كادت أن تذوب فى ذوات غيرهم وأوقفوا حياتهم تبعا لغيرهم كما يتبعُ الظلُّ العودَ فباعوا دينهم بدنياهم ، وهم سواد الناس وعامتهم، إلا قليل ممن رحِمَ ربّي.
إن دعاوى الإصلاح على المستوى (الدينى، والعلمى، والسياسى، والاجتماعى ) لا يقوم لها وبها إلا نفر قليل من البشر يهبون حياتهم لها بعد أن زودوا أنفسهم بالعلم والفهم وما رزقوا به من قوة النفس ورباطة الجأش وسكن الفؤاد، فيسعون جادين للأخذ بيد العوام إلى تغيير واقع الحياة إلى الأفضل ونبذ ما اعتادوا عليه من الباطل والمذلة والاستسلام للشهوات، والتبعية العمياء، وقد قيل:"إنّ الناس عبيد لما علموا، وأعداء لما جهلوا"، وهذا من طبائع العوام التي اكتسبوها؛ فأفئدتهم هواء، لا يركنون ولا يسمعون إلا لأتباعهم" وقد وصفهم القرآن، ونعت تبعيتهم في أكثر من موضع "وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ  إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (سورة ص: الآية6)"؛ حتى إنه نعى هذه التبعية البغيضة الثابتة التى يقبض عليها (الأتباع) دزنما تفريط وإنْ تكشَّفتْ الحقائقُ أمام أعينهم (بصيرةً وبصرًا)، ويظهر هذا بجلاء في موقفين: أما الموقف الأول فيتمثل في: (الفزع) يوم القيامة حيث يصوِّر القرآن فزع المؤمنين لله أثناء الحشر، بينما يفزع هؤلاء الأتباع إلى أسيادهم "وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ" (سورة إبراهيم: الآية:21). أما الموقف الآخر فيكون في (المحاججة والمعاتبة) داخل النار بين الأتباع الضعفاء وأسيادهم من المستكبرين ـ أعاذنا الله وإياكم ـ "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ" (سورة: غافر: الآية47)، " فما يزال هاجس التبعيّة يخيم على هذه النفوس المريضة حتى بعدما ذاقت من العذاب.
وقد حفلت سيرالأنبياء والرسل بهذه المواقف مع أقوامهم ــ إذ كانوا الفريق الأشد بلاء والأجمل صبرا ــ، فقد أوذي منهم من أوذي وقتل من قتل وتُوَعدوا بالقتل والإخراج والرجم وما كان هذا الوعيد من الظالمين وأتباعهم من العوام إلا معاندةً، واستكبارًا وصدًّا عن سبيل الهدى وطريق الرشاد، يقول صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي. رواه مسلم".
ولو نزلنا فى مدارك الزمان والشخصيات نجد العصور الوسطى خير شاهد على تردى البشرية إلى أقصى دركات الجهل حيث سيطرت فئة من الناس على عقول العوام طمست معالم الحق فى نفوسهم وكانوا تبعا لها كالقطيع للراعي، ولبست عليهم دينهم وباعت لهم صكوك الغفران وشفاعة القديسين وأوعزت لهم بالحرمان من الجنة وباعت لهم المغفرة، حتى جاء (مارتن لوثر)  بدعوته الإصلاحية: البروتستانتية رافعًا راية (الخلاص) فأسقط كثيرا من سلطة الرعاة والقساوسة التي أحرقت وعذبت الكثير من المشتغلين بالعلم ونصبت المشانق ومحاكم التفتيش تسوم الناس سوء العذاب.
ومن نماذج التبيعية أيضا تلك التى نلاقيها فى عالمنا الثالث، فقد انتهت عهود الاستعمار العسكرى إلى غير رجعة ، إلا أن الاستعمار استعاض عنها باستعمار جديد، " فصنع وكلاء له يدينون له بالولاء، وغزا ثقافات هذه الشعوب حتى سايروها دون وعي فلا تكاد يخلو نمط من أنماط حياتهم ولا خُلق عوامهم  إلا وهو ممتزج بهذه الطريق الوعثاء.. فأين المفر؟
يقول الكاتب برنارد شو " الرجل المعقول يحاول أن يوفق بين نفسه وبين العالم، والرجل اللامعقول يحاول أن يوفق بين العالم وبين نفسه.. لذا كان التغيير فى العالم دوما مرتبط بهؤلاء الأناس اللامعقولين.. ويقول أيضا: "المصحلون الذين لا ينصلح لهم العالم يكون مكانهم حتما مع الذين لا يصلحون للعالم"..
 هكذا يكون مصير المصلحين حين يدير لهم عوام الناس ظهورها ويتبعون دعاة الباطل الذىن يلبسون عليهم الحقائق فلا تتوقف عقولم أمام كل دعوة حتى تستبين ماهيتها، وتعرف غثها من ثمينها؛ إنما تهرول إليها جاهدة متلقفةً ومقلّدة، ومعرضة عن كل نصح وناصح، تصم آذانها وتغشى أبصارها..  وقد جعل الله لكل نفس على نفسها بصيرة مهما تعذرت بالأعذار، فسبحان الله الذي جعل العبودية خاصيةً له دون سواه فلم يخلق نفسا مستعبدة، ولم يجعل لبشر أو شيطان أو مخلوق على قلب بشر سبيلا، وأمر كل صاحب دعوة أن يبرهن على دعوته بالحجة والدليل "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (سورة البقرة: الآية:111)، وجعل العلم حجة دامغة يحتج بها على المعاندين" قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (سورة الأنعام: الآية: 148) ".. وهكذا منهاج المصلحين

تعليق عبر الفيس بوك