الابتكار أساس العمل السياسي المبدع

 

عبيدلي العبيدلي

 

يسيطر على ذهنية وسلوك قيادات مكونات العمل السياسي العربي، ومن ضمنه الخليجي بطبيعة الحال، مفهوما خاطئا عند رؤيته للعلاقة بين العمل السياسي والابتكار، ومن ثم الإبداع، حيث ما تزال العقلية العربية تكبل العمل السياسي في قيود أشكاله التقليدية، أيدلوجية كانت تلك القيود أم تنظيمية. المعمر من تلك القيود تجاوز عمره الألف عام، واليفع منها يعود بجذوره إلى مطلع القرن العشرين.

محصلة ذلك حركة سياسية عربية جامدة، تفتقد إلى الحيوية، وينقصها الابتكار، وغير قادرة على الإبداع، الأمر الذي من شأنه حصرها في حركة أفقية مستمرة غير قادرة على النمو والتطور، ومن ثم عاجزة عن إحداث الطفرة المطلوبة التي تنقل المجتمع العربي من أتون مستنقعه الراكد إلى فضاء متحرك يملك ديناميات التطور التي بات يفرضها تقدم الأمم الأخرى بمن فيها تلك التي تشاركنا نفس الإرث الحضاري.

والقول بضرورة التمرد على الذهنية الساكنة، واستبدالها بأخرى مُبتكرة لا يقتصر على النشاط السياسي، لكنه بات منظومة حياتية متكاملة تقع السياسية منها في نواة تلك المنظومة، كونها الأساس الذي يتمحور حوله نشاط المواطن وسلوكه التغيري.

مكونات هذا الجمود تتوزع على أنشطة الحركة السياسية العربية التي يمكن تشريحها عبر المحاور التالية:

المحور الاقتصادي، فما زلنا، رغم تراكم السيولة النقدية بين أيدينا بفضل ما أصبح يعرف باسم: "الفوائض النفطية"ـ عاجزين عن نقل آليات اقتصادنا العربي بشكل عام، أو اقتصاد كل قطر على حدة، من نمط الإنتاج الريعي التقليدي، إلى الاقتصاد الحديث، دع عنك اقتصاد المعرفة، والطبقة الأعلى منه التي أصبحت تعرف باقتصاد الإلهام. هذا الاقتصاد الريعي، الراكد بطبيعته، أعجز من أن يولد سوقا مبدعة تولد حركة مالية أكثر إبداعا، قادرة على إحداث التحول المطلوب من النمط التقليدي إلى النمط الإبداعي. وإذا قبلنا بمقولة إن البنية التحتية الاقتصادية هي الأساس لأي تحول في البنية الفوقية الثقافية، بل ربما الحضارية، فمن غير المنطقي أن نتوقع إحداث الطفرة السياسية المطلوبة على أرضية اقتصادية متخلفة.

المحور السياسي، حيث تواصل الحركة السياسية العربية، بكافة مكوناتها، اجترار أساليب وطرق العمل السياسي المتعارف عليها في مطلع القرن العشرين، بل ما يزال البعض منها أسير أناجيل ميكافيللي الإيطالية، وكتب روسو الفرنسي "المقدسة"، ومقولات لوك البريطاني التي عصفت بها تطورات ما يزيد عن بضعة قرون من الزمان. كل هذا في حين تمردت الأمم المتقدمة سياسيا، ولا ينحصر الأمر في تمرد دول أوروبا وأمريكا الشمالية على تلك المقولات الجامدة، وراحت تبحث، منطلقة من إرثها الحضاري، وقيمها الثقافية عن بدائل جديدة، تتناسب وما ولدته ثورات تقنية المعلومات والاتصالات من مفاهيم لا يمكن الوقوف في وجهها.

المحور التنظيمي، حيث تستمر مكونات العمل السياسي التنظيمي تلوك المقولات "اللينينية" من جانب، ومنطلقات الدولة بمفهومها الذي يعود إلى ما قبل الحرب الكونية الأولى من جانب آخر. ومن ثم لم تمر رياح التغيير التي هبت على العالم، وعصفت بهياكل الدولة، وأطر التنظيمات المعارضة لها على سماء مكونات العمل السياسي العربية التي ما تزال تئن تحت وطأة قيود ذاتية كبلت نفسها بها، وهكذا وجدت نفسها غير قادرة على مخاطبة أجيال من الشباب الصاعدة الباحثة عن أطر تنظيمية مبدعة قارة على استيعاب طاقاتهم المتفجرة وتوجيهها نحو الأهداف الصحيحة، على نحو مبتكر، وفي الإطار المبدع السليم.

المحور الاجتماعي، حيث تراوح مكونات العمل السياسي العربي عند أطر مجتمعية بالية، أكل عليها الدهر وشرب، إذ نجدها غير قادرة على تجاوز محددات عمل منظمات المجتمع المدني التي دكت أسوار قلاعها ثورة الاتصالات وعلى وجه الخصوص قطاع التواصل الاجتماعي منها. لقد هزت "قيم الفيسبوك"، ومقاييس "الواتس أب"، وأطر "التويتر"، جدران معابد من يصر على حصر حركته في نطاق جغرافي ضيق، وإطار زمني أشد ضيقا.

كل ذلك يضع حركة التغيير السياسي أمام تحديات لم تسبق لها أن واجهتها، ويطالبها بالتفكير خارج القيم التي ترفض التمرد عليها. والتمرد هنا، إن أريد له مبتكرا، كي يكون قادرا على إحداث النقلة النوعية التي تحدث الإبداع، مطالب بالتمرد على الذات قبل مطالبة الآخرين بالتمرد على ذواتهم.

ويبدأ التمرد على الذات بمناقشة المسلمات في المحاور الأربعة المشار لها أعلاه. فما لم يسمح للعقل بالتفكير، وللمنطق أن يسود، ستواصل مكونات العمل السياسي الدوران حول نفسها، والمراوحة في مكانها، وتبادل الاتهامات بين بعضها البعض، بين متنصل من المسؤولية، وملق بها على الآخر. وبين هذا وذلك تضيع الفرصة على الجميع، الذين سيكتشفون، لكن بعد فوات الأوان أن شعوب العالم الأخرى تسير نحو الأمام، وتتقدم بخطوات مبتكرة تكفل الإبداع المطلوب لتطوير العمل السياسي، في حين يقف العرب على قارعة الطريق، إما مصفقين للفائزين، أما متحسرين على خسارتهم هم.

الخطورة في الموضوع هنا، أن الوصول إلى حقيقة فشل مكونات العمل السياسي العربي، عندما تكتشف ذلك، ستكتشف أيضا أن ما يفصلها عن الآخرين، وبعض الآخرين هنا ينتمون إلى الخلفية الحضارية التي ينتمي لها العرب أنفسهم، سنوات ضوئية لم يعد في الإمكان تجاوزها من أجل اللحاق بمن سبقوهم.

هذا يوصلنا إلى حقيقة، ربما تكون مرة، لكننا مطالبون بتقبلها، أن العمل السياسي، هو الآخر نشاط إنساني، لا بد له أن يكون مبتكرا، كي يحقق النقلة الإبداعية المطلوبة التي تفك أسره، وتطلق فرص التغيير أمام من يستحقونها، وليس أمام من يحتكرونها، ويصرون على سجنها، بوعي أو بدون وعي.