آرنست رينان والتَّجني على العربيّة (1-2)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني
الجامعة الهاشمية – الأردن


..........................
تشيع بين الناس من هذا الجيل فكرة: دعونا من الأمس، ولنفكر باليوم والغد، فالماضي لا يجدي؛ بل يزيدنا تخلفا. وهذه حقا حكمة الجاهل أو الماكر، يريدوننا بلا ذاكرة، ويتناسون أن الماضي فيه نقاط مشرقة جدا، وفيه سلبيات وأخطاء يمكن أن نأخذ منها العبر، يريدوننا بلا ذاكرة، بلا هوية ؛ ليسهل طمسنا وإذابتنا وتدجيننا، والحق أن الماضي مهما يكن فهو الأساس والتاريخ الذي ينبغي أن يقرأ ويراجع ويُحلل لمعرفة ما يجري اليوم، وتنبؤ ما سيكون غدا، وأي أمة تريد أن تنهض تبني على ماضيها، وتفيد من إيجابياته وسلبياته على حد سواء! وحتى لو قررت أمة أو شعب أن ينسى ماضيه فهل يضمن أن الآخرين، أحفاد السابقين أيضا بلا ذاكرة؟ إن ما يجري حولنا اليوم، وسيجري غدا، وإلى يوم الدين هو امتداد لفكر الأجداد.
فقديمًا عندما وجه الغرب أطماعه إلى مناطق في العالم لاكتساحها والهيمنة عليها، للاستيلاء على خيراتها، وضع خططا استراتيجية دقيقة ومحكمة، وجند المثقفين والأدباء والعلماء لتحقيق أهدافه، لأنهم يعلمون أن ضمان الفوز في المعركة رهين بانهزام الفرد من داخله، وتشويشه ونزع ثقته بكل ثوابت ثقافته الخلقية والدينية التي تربى عليها، وقد أدت دور العبادة ورجال الدين دورا كبيرا في استغلال العاطفة الدينية وتوجيهها لخدمة مصالح السياسيين، ومازالت صكوك الغفران توزع على القتلة والمجرمين من أعداء الإنسانية، ومازالت تلك السلطة الدينية تربي وتوجه أزلامها وربائبها ليكونوا بوقا لباطلها، وعبيدا مخلصين للساسة والرأسماليين.
إنهم معاول لهدم الأمم، وخاصة الإسلام؛ الذي حرَّر العرب في الماضي من هيمنتهم، واستطاع بعظمته وسمو تعاليمه، ومخاطبته للعقل والروح، وموازنته بين حاجات الروح والجسد، وسعادة الدنيا والآخرة - اخترق العالم، واجتاز الحدود، وانتشر اختيارًا لا إجبارًا .
إن حركات الاستشراق تأسست أصلا لدراسة حضارات الأمم ولغاتها، تمهيدًا لقراءة ثقافاتها الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وتاريخه، واستخلاص الهوية الجمعية التي يستقي الفرد منها قناعاته ومعتقداته، فتحديد نقاط الضعف التي يمكن الضرب عليها لتسهيل انهيارها والسيطرة عليها.
وقد ظهر من المستشرقين من كان موضوعيا باحثا عن الحقيقة لذاتها، فكشف عن نقاط مضيئة تشهد للعربية والإسلام بالعظمة والتفوق، وهم قلة ، و كثير منهم كان ينطلق من فكرة عدائية راسخة للعروبة والإسلام.
ومن هؤلاء المؤرخ الفرنسي آرنست رينان، من مستشرقي القرن التاسع عشر، والذي تربى تربية كنسية كهنوتية، ثم رأى بأن لابد من الفصل بين الأحداث التاريخية الحقيقية في الإنجيل، والأساطير، مما أغضب الكاثوليك عليه، وبدل أن يصبح راهبا، صار مؤرخا وفيلسوفا.
والحقيقة أنه قرأ التاريخ العربي والإسلامي قراءة سطحية، وانطوت فرضياته على كثير من المتناقضات والمغالطات؛ لكنه للأسف قدم رؤيته المشوهة المشوشة هذه للغرب على أنها نظريات.
والرد على ترَّهاته التي يقدمها على أنها حقائق راسخة يحتاج إلى كتب، لكنني اليوم أقف عند مقولة له تخص العربية.
يرى رينان "أن اللغات السامية لم ترق إلى مستوى اللغات الآرية في بناء الجملة، فهي عاجزة في الصياغة والتصريف وصيغ الكثرة، لا صور فيها، وتتمتع بضحالة حرمتها من التجريد الذهني والفكر الماورائي والإبداع، وأن جُل ما أجاده أصحابها الساميين التعبير عن الطابع الانفعالي، فكان الشعر منبرهم الذي لا يدانى، وقد برعوا في موسيقاها لأنها والشعر وليدة اللحظة والوجدانية الذاتية".
إن مقولته هذه تشم فيها بقوة رائحة الحقد  المعتق، ومن ضيق الأفق والتعميم المعمى، الذي لا يصدر عن عقل حر يعرف أسس التفكير العلمي الموضوعي دون وصاية مرسومة بصك كهنوتي محدود ومحدد. وهذا الكلام ينبيء عن رجل لم يعرف شيئا جوهريا في اللغات السامية عموماً، والعربية خصوصاً، إنما هو مسكون بحقد دفين مسبق على الشرق، ومتى كان العدو منصفا؟  بل إن ما سطَّره بعض المستشرقين ردٌ مفحمٌ عليه. وفي المقالة التالية نسوق للقاريء من الأدلة والبراهين على جمال العربية كلغة أصيلة وكيف كانت ملهمة لسائر اللغات السامية والأوربيّة والمعاصرة والصاعدة مع بصعود الحضارة الغربيّة وسطوتها الكلونيالية، وعصاتها الاقتصادية الغليظة.

تعليق عبر الفيس بوك