أحمد الفلاحي يكتب: حول الثقافة العربية

في أول الحديث، دعونا نقول إنَّ الثقافات النشطة ذات التأثير الواسع، والتي يمكن وصفها بأنها مهيمنة، هي الثقافات الناشئة في ظل قوة سياسة ضخمة فاعلة، تدعمها، وتساندها، وتروج لها، وتمنحها الرعاية بكل ما تشمل عليه كلمة "سياسة" من معان كثيرة، وما تعنيه من مدلولات متنوعة، وذلك في أغلب الحالات. فالسياسة هي القدرات العسكرية والإعلامية والأنشطة السرية، وهي الإمكانات الاقتصادية التي تزدهر معها عادة المعارف والفنون الخاصة بتلك الأمة من لغة وقيم وأنماط في العيش والحياة؛ مما نُطلق عليه اسم "ثقافة"، ويمكن ملاحظة ذلك على طول امتداد حقب التاريخ البشري؛ ابتداء من: الفراعنة، والإغريق، والرومان، والعرب، وصولا إلى الأمم الحديثة. كل أمة تبرز وتصعد وتقوى ويعلو شأنها، يكون ارتكازها الأعظم على شيئين اثنين؛ هما: الجيش والمال، وبفضل الأول تكون الفتوحات، والتمدد في أراضي الأمم الأخرى، وبفضل الثاني تتعزز الهيمنة والنفوذ، وهذا الثاني (المال) هو في الحقيقة نتيجة للعنصر الأول؛ فكلما استطاعت جيوش الأمة بسط نفوذها وسيطرتها على المزيد من الأراضي، انهمرت عليها الأموال وزادت ثروتها؛ وبذلك يتحقق لها التفرد والنفوذ والمهابة بين أمم الدنيا.

وقد علمنا هذا مما كتبه الأستاذ هيكل -الكاتب العربي الأشهر- في العديد من كتبه؛ ومن بينها بالتحديد: كتابه "الإمبراطورية الأمريكية"، كما قرأناه أيضا في كتب التاريخ القديم والوسيط والمعاصر. ومن كل ذلك، عرفنا كيف تؤثر الأمم القوية الغالبة على الأمم المغلوبة، وكيف تنشر فيها ثقافتها ولغتها ونظرتها للأشياء، وكيف يتعلق المغلوب بالغالب ويتمثل خطاه وتصوراته، وإن أشعل هذا المغلوب ثورة ضد ذلك الغالب وقاومه، وتحدى هيمنته، وتصدى له، وحاربه بكل السبل، إلا أنه يظل مع ذلك يراه النموذج الذي يُحتذى، أخبرتنا بذلك سير الإسكندر الأكبر، وكسرى انو شروان، وأباطرة الصين، ولا تزال تماثيل الإغريق ومدرجات الرومان تملأ مدن العالم التي مروا بها حتى اليوم، ولا تزال تأثيرات الصين في الجانب الشرقي من الأرض محسوسة -من حيث الدين واللغة- في اليابان، وكوريا، وتايلند، ومعظم نواحي تلك المناطق، ومآثر العرب أيام قوتهم يُشاهدها العالم في لحظته هذه في أغلب الأمكنة التي سيطروا عليها؛ ومنها: إسبانيا التي صيروها عربية خالصة، حتى اضطر قساوسة كنائسها إلى ترجمة صلواتهم وعظاتهم إلى اللغة العربية؛ ليتمكَّن رعايا الكنائس من فهمها، واللغة الاسبانية المنطوقة والمكتوبة تحتوي على ما يتجاوز ستين بالمائة من الكلمات العربية، إضافة للشواهد المادية التي هي المصدر الأساسي للميزانية الإسبانية، ومثل إسبانيا معظم -إن لم نقل كل- الأمكنة التي وضع العرب أقدامهم فيها في حينٍ من الدهر في الشرق والغرب، وكما نلاحظ في عصرنا من تأثيرات الإنجليز الذين حكموا معظم العالم في القرنين الماضيين، وكذلك الفرنسيين، في مناطق مستعمراتهم ونفوذهم، ثم جاءت أمريكا التي رسخت اللغة الإنجليزية، وأضافت لها ما أضافت من قيمها.

وأنا قلت في البداية إنَّ هذا هو الأغلب، ولكن التاريخ لا يخلو من بعض الاستثناءات القليلة، خاصة في الزمن القديم، من تأثر الغالب بثقافة المغلوب، خاصة إن كان لدى ذلك المغلوب ثقافة عميقة عالية، كما حصل للتتار والمغول الذين اقتحموا أرض العرب وامتلكوها، فغمرتهم ثقافتها واجتذبتهم ليندمجوا فيها، وكما هي حال الإسكندر الأكبر الذي قيل إنه تأثر بمصر الفرعونية بعد احتلالها، وقام بالحج إلى معابدها الكبرى، وهذا شيء نادر على أي حال.

وقلَّ -أو انعدم- تأثر الغالب بثقافة المغلوب في العصور المتأخرة، بما فيها عصرنا الذي نحن فيه، والذي بلغت فيه الدول الكبرى حدودًا لا يمكن تصورها في التسلح العسكري، وفي الثروات المالية، وفي تطور الصناعة وآفاق التقنيات التي كانت ذروتها الثورة الإلكترونية التي لم تبح بكل أسرارها بعد، والتي غيرت كل ملامح عالم اليوم.

الثقافة إذن تستمد انتشارها وتأثرها من القوة السياسية التي وراءها، وذلك واضح وضوح الشمس فيما نشهده أمامنا من سطوة اللغة الإنجليزية وهيمنتها على كل الأمم، واللغة هي المنبع الأول للثقافة؛ فالمثقف في زمننا غالبا هو من يجيد الإنجليزية، ويقرأ ويكتب بها، وحتى الأمم شديدة التعصب لثقافتها ولغتها بدأت دفاعاتها تُخترق بفعل فيضان الإنجليزية الطاغي الزائد على الحد، والمكتسح لكل مقاومة أمامه، كما هي الحال في فرنسا التي أنشأت القوانين، وقررت النظم الصارمة لمنع تدفق الإنجليزية بحظر إدخال الكلمات الإنجليزية إلى الفرنسية، وبالتشدد فيما يخص السينما والإعلانات؛ ومثلها: الصين، واليابان، وروسيا، وألمانيا، كل بطريقته وبالأسلوب الذي يراه، ولكن الإنجليزية تزحف ويزداد نجاحها واجتيازها لكل السدود والحواجز المقامة أمامها، لتصبح منافسة قوية لهذه اللغات والثقافات في أعماق ديارها ومواطنها، وفرنسا ذاتها تسعى بألف وسيلة ووسيلة لنشر ثقافتها ولغتها في مستعمراتها السابقة، وأبرز صور هذا السعي: اتحاد الفرانكفونية الذي تم تأسيسه قبل فترة غير بعيدة، واجتمعت وقتها له أكثر من أربعين دولة تحت زعامة فرنسا لدعم اللغة الفرنسية وثقافتها وموازنة نفقات هذا الاتحاد تتجاوز الخمسة عشر مليار يورو، والصين -وهي عملاق العالم الذي برز، مؤخرا، كقوة عظمى يرى المراقبون أن هذا القرن الميلادي سيكون قرنها بامتياز- بدأت هي الأخرى تندفع بنشاط ملحوظ لترويج ثقافتها في أمم العالم الواسع؛ من خلال المساعدات السخية لمشاريع التعليم الأولي والعالي، مسبوقة بالدعم الاقتصادي والمالي، والعلاقات السياسية المتينة، وكذلك تفعل روسيا في محيطها، وحتى في غير محيطها من الدول البعيدة التي كانت مرتبطة بها؛ سعيا لترسيخ ثقافتها، وتأكيد استمرارها، وألمانيا التي نشطت لفتح المعاهد والجامعات في الكثير من عواصم العالم، وتقديم البعثات للدراسة فيها؛ من أجل نشر اللغة الألمانية التي كادت تكون لغة أمريكا الرسمية غداة استقلالها، لولا أن دعاتها هُزِموا أمام دعاة الإنجليزية ببضعة أصوات، عددها أقل من عدد أصابع اليد الواحدة.

نعود مرة أخرى لمقولتنا إنَّ الثقافة تقودها السياسة، وبقدر نفوذ السياسة وحجم دورها يكون علو شأن الثقافة وتأثيرها، وفي هذا السياق نرى أن أعلام الكتابة والأدب من الأمم الضعيفة ربما لم يكونوا ليحرزوا ما أحرزوه من نجاح وشهرة لو لم يكتبوا أدبهم باللغات الإنجليزية والفرنسية، وبعض هؤلاء ممن أحرز نوبل -كمثل ماركيز من أمريكا اللاتينية، وسونيكا من إفريقيا- وحتى الذي كتب بلغة قومه، جاءته حظوظ الانتشار من خلال ترجمته إلى تلك اللغات التي أطلق عليها أصحابها اسم "اللغات الحية"، ومن نماذج ذلك أديب العربية الكبير نجيب محفوظ، ولا يعني هذا أننا ندعو لانصراف كتابنا عن لغتهم، والكتابة بلغات الآخرين لتكون لهم الشهرة والانتشار، ولكننا بهذا نَصِف حالة الضعف والقوة في الثقافة، والوضع الذي يجعلها مسيطرة، مؤثرة، أو منافسة على الأقل، أو متلقية تتأثر وتعجز عن التأثير، وسيرد عليَّ كثيرون بأن الثقافة في معظم أحوالها مضادة للسياسة ومصادمة لها، ويمكن ذكر العشرات من رموز الثقافة الكبار الذين واجهوا سياسات بلدانهم وعارضوها بشدة في البلدان الدكتاتورية، فضلا عن الديمقراطيات الغربية -كمثل سارتر، وبرتاند رسل، وتشومسكي...وغيرهم- وأنا لا أتحدث عن هذا مطلقا، وإنما أتحدث عن الثقافة كحالة بذاتها: متى تقوى، ومتى تخفت وتتراجع؟

ويقودنا هذا إلى التساؤل عن موقع ثقافتنا نحن العرب في لحظتنا هذه بين ثقافات الأمم، وما هي مكانتها؟ ويمكن لنا تبين جواب التساؤل مما قدمنا طرحه قبل قليل من أن قوة الثقافة رديف لقوة الأمة، وإذا نظرنا إلى حالة أمتنا في وقتها هذا وعقدنا مقارنة بينها وبين الأمم النظيرة والشبيهة لها، فسنرى فورا ضعفًا شديدًا يكون من نتائجه تراجع مهول، وقد يقول قائل إنَّ الأمة تنهض وتتطور، وهناك المدارس والجامعات والصحافة والكتب والمسرح والسينما والأدب، وهذا صحيح، ولكن عند المقارنة بين مكانة الأمة العربية ومكانة الأمم المماثلة لها في عالم اليوم، سيبدو لنا كم هي المسافة بعيدة، والفرق كبير، ومن هذا الخفوت والتقاصر ينجلي لنا بالتالي حال ثقافتنا وصورتها أخذ أو عطاء كم عدد الكتب التي تؤلف وتنشر؟ وكم عدد الأفلام السينمائية التي تنتج وتتميز؟ وكم عدد الكتب التي تترجم إلى لغات العالم؟ وكم الذي يترجم من هذه اللغات إلى لغتنا؟ وكم عدد جامعاتنا التي تحل في الصفوف الأولى بين جامعات العالم؟ وكم عدد مراكز البحوث المتخصصة لدينا؟ وكم هي المجلات الدورية في الأدب والفكر التي نصدرها، وتحرص نخب العالم على قراءتها ومتابعتها؟ وما هو حجم الإنفاق الذي ننفقه لتنمية ثقافتنا وترويجها؟ وكم نسبته من جُملة مداخيلنا ونفقاتنا؟ وما هو الدور الذي نضطلع به على مختلف الصُّعد لتعريف العالم بتراثنا القديم وحضارتنا الماضية وثقافتنا الحالية الجادة النافعة التي نعيشها اليوم؟ وإلى أيِّ مدى تحضر ثقافتنا في تجلياتها المختلفة في منتديات وملتقيات الثقافة العالمية؟ وما هي المسرحيات التي استطاعت هز مسارح العالم الكبرى المعروفة؟ وكم من اللوحات التشكيلية التي تنافست متاحف العالم على اقتنائها أو استعارتها لفترة محدودة لعرضها أمام جمهورها؟ وكم من الأفلام السينمائية التي نشارك بها كل عام في مهرجانات السينما العالمية ويتم عرضها في دور السينما في باريس، وفيينا، ولندن، وموسكو، وواشنطن، وطوكيو؟ ولا يعني هذا مطلقا أن مبدعينا أقل من غيرهم، بل إن لدينا من المواهب العبقرية ما نزهو به ويستطيع أن يكون مثالا للإعجاب والتقدير في أوساط الثقافة والفن العالمية، لو قدر لتك الأوساط معرفته، والاطلاع على إنجازه وإبداعه!!!

أسئلة كثيرة تتوالى، جوابها: "لا شيء"، أو أقل القليل إن وجد، وأعلم أن هناك محاولات تبذل هنا وهناك من قبل بعض رموز الثقافة، أو من قبل بعض الحكومات، ولكنها جهود قليلة وناقصة!!

ولو تأملنا في هذا الصدد -على سبيل المثال- دور الثقافة الإيرانية الحاضرة دوما في ملتقيات العالم ونجومها في المسرح، والسينما، والتشكيل، والفكر، ممن يُبهرون المتلقين في عواصم الثقافة العالمية بما يقدمونه، ولا يكاد ملتقى من ملتقيات الثقافة الكبرى يُعقد إلا وهم في مقدمة صفوفه مشاركين وفاعلين، وتدخل إبداعاتهم للمنافسة، وتحصد الجوائز الأولى في كثير من هذه الملتقيات. وخير مثال على ذلك: مهرجان "كان" في فرنسا، الذي تنال السينما الإيرانية بعض جوائزه سنويا، ومثل الثقافة الإيرانية تبدو كذلك بحضور متميز ثقافات كوريا، وتركيا، وتايلند، وماليزيا، وبعض دول أمريكا اللاتينية. أما ثقافة الهند، وحضورها اللافت في العالم كله، فذلك أمر أكثر من أن نقارن ثقافتنا العربية به وحضورها!

ثقافتنا اليوم هي في وضع المتأثر والتابع -في أكثر الحالات- أما تأثيرها في الثقافات الأخرى، فذلك شبه معدوم، وأقصى المتاح لها أن تتمكن من الحضور في حالات ليست كثيرة؛ بفضل نضال مرير غير هيِّن تخوضه بعض نخبها، ويكون ذلك الحضور هامشيًّا يلوح للحظة ثم يختفي، وهناك أمثلة عديدة؛ منها: مشروع الباحثة الكبيرة سلمى الجيوسي لترجمة الشعر العربي، ويلاقي ذلك المشروع عقبات كبرى!! ومشاريع أخرى تسعى بكل جهد لإظهار جوانب من الثقافة العربية تقاتل للبقاء، وهي صغيرة وضعيفة التأثير تعاني شديد المعاناة!!!

وعدونا المهيمن على ناصية الإعلام والنافذ بقوة في مجامع الثقافة والفنون الدولية يُحارب باستماتة مثل هذه المشروعات، ويبذل كل استطاعته -وهي كبيرة- لمنع أي حضور للثقافة العربية، مستغلا حالة العجز والضعف العربي الذي يتزايد باستمرار للأسف.

والخلاصة أن ثقافتنا العربية كانت تعطي ثقافات العالم وتأخذ منها، في تبادل خلاق، وفي بعض عهودها الزاهرة كان عطاؤها أكبر من أخذها. أما اليوم، فهي متأثرة أكثر منها مؤثرة!

وتبادل المعرفة بين الأمم سُنَّة سارت عليها البشرية منذ بزوغ فجرها الأول، والأمم الحية هي التي تمد أواصرها مع الآخر الجار أو البعيد، في علاقة سمحة تقوم على الإفادة والاستفادة من المنافع المادية وفي الأفكار والقيم.

ونحن في هذا المقام ندعو شبابنا للانفتاح على العالم، والتواصل معه، والترويج للثقافة العربية الغنية المرتكزة في أساسها وثوابتها على التسامح والقبول بالآخر المختلف، عبر كل الوسائل؛ وأهمها: الشبكات الإلكترونية التي أصبحت أهم وسيلة للحوار، ولتوصيل الأفكار والقيم بسماحة واحترام، بعيدا عن الغلو والتطرف والتعصب. والمؤسسات الأكاديمية والجامعات هي الحاضن للعلم وللأخلاق ولمبادئ التسامح وللقيم الإنسانية العليا، وهي التي تعلق عليها المجتمعات والأوطان الآمال لصنع الأجيال، ولتمكينهم من المعرفة، ولإعدادهم الإعداد الجيد ليكونوا حملة لواء المستقبل، المبشرين بالغد القادم الجميل، والعاملين في سبيله بأمانة وحب وإصرار؛ للوصول إلى أرقى مراتب التطور والنماء والتحضر لأمتهم وأهلهم، وهذه والمؤسسات هي المنابر التي يعول عليها في تطوير الثقافة العربية وتجديدها بما يتسق مع العصر وظروفه؛ من خلال أساتذتها المستنيرين، وطلابها المبدعين الواعين المندمجين في حضارة العصر والمحافظين على هويتهم في الوقت نفسه.

والثقافة عند الأمم هي الخندق الذي تتمركز فيه، وهي السياج الذي تحتمي بداخله؛ للحفاظ على ذاتها من الذوبان، وبطبيعة الحال فالثقافة تتطور وتتغير ألوانها وصورها وفق مستجدات عصورها، تستلهم عناصر موروثها، وتسير بها لملاقاة زمنها.

وفي ثقافتنا العربية الكثير، والكثير جدا، من الأشياء التي لو حسن استنباطها وإبرازها لكان فيها الثبات والتمكين لنا عند حوارنا مع ذلك الآخر المشترك معنا في الإنسانية وفي الحياة؛ ليكون تواصلنا معه يذهب مذهبَ التقدير والاحترام، نستفيد مما لديه، ونوصل ما عندنا إليه، من غير أن نذوب فيه، أو أن نجد أنفسنا مستلبين منه، ومن غير أن نتعصب أو نتحجر.

هذا هو المعيار الحاكم في صِلات الأمم ببعضها.. إنه ببساطة شديدة حوار الحضارات، وليس صدام الحضارات.

تعليق عبر الفيس بوك