عطر الهجرة

تملأ الآفاق رائحة عطر الهجرة النبوية الشريفة؛ حيث يحل شهر محرم، ويتذكر المسلمون ذاك الحدث العظيم، الذي قلب موازين التاريخ، وغير وجه البشرية، إنه حادثة هجرة النبي الكريم محمد -عليه وعلى آله أزكى الصوات وأتم التسليمات- الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، التي كانت سبيلا لإنشاء دولة الإسلام الأولى؛ حيث شع نور الدين الحنيف في الأصقاع، ودخل الناس في الدين أفواجا.

وفي هذه الأيام المباركة، حري بنا أن نراجع أهم القيم والدروس التي يجب أن نستذكرها، ونخبر بها أبناءنا وبناتنا؛ وأولها: التضحية؛ فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضطر لمغادرة بلده الذي ولد فيه وترعرع، وترك أقرباءه وعشيرته، وها هي أم سلمة -أول امرأة مهاجرة في الإسلام- عندما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، حملها وابنه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة بن مَخْزوم، قاموا إليه وتجاذبوا الابن حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسها بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجها حتى لحق بالمدينة، وفرقوا شمل الأسرة وبقيت سنة كاملة تبكي، حتى أشفقوا على حالها، فتركوها وردوا إليها ابنها.

وصُهَيب الرومي عندما أراد الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم: "أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟" قالوا: نعم، قال: "فإني قد جعلت لكم مالي"، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ربح صهيب".

ليست التضحية فقط، بل نتعلم ألا نيأس ونرنو بأبصارنا إلى غد أفضل؛ فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقي في مكة مدة من الزمن يدعو قومه، وما آمن إلا نفر قليل، وتعرض هو وهم إلى شتى صنوف التنكيل، إلا أن هذا زادهم إصراراً.

وتعلِّمنا الهجرة أيضاً إتقان التخطيط وحُسن توظيف الطاقات لتحقيق النجاح، والثبات على الموقف، والبحث عن الحلول الشاملة وليس البدائل المؤقتة، وشدة التوكل على الله، وهجر المعاصي والعصاة، وهجرة القلوب إلى الله تعالى.

تعليق عبر الفيس بوك