على مسرح دار الأوبرا السلطانيّة - مسقط

بوشناق وثروت في حضرة "المالد العُمانيّ"

...
...
...
...

في ليلةٍ واحدة تجتمع تحت سقف دار الأوبرا السلطانية – مسقط الحضارة العمانية العريقة بفنونها المتجذّرة كالجبال الراسيات والمثمرة في شجرة العروبة اليانعة بالأصالة والفن، والثقافة التونسية الضاربة بأصولها في الحضارة الإسلاميّة، والممتدة إلى بلاد الأندلس بفنونها وعلومها يلتقيان معا بالحضارة الفرعونيّة حيث فن (الابتهالات) والذي يختلف مؤرخو الفن حول بداية نشأته فمنهم "من نسبه إلى عصر الدولة الفرعونيّة الحديثة، ومنهم من أرجع بداياته إلى انبلاج عصر الدولة الفاطمية في مصر وبلاد المغرب العربيّ.
في هذه الليلة المفعمة بروح الفن تصدح فرقة "رتاج" العُمانيّة وتقدّم لجمهور الأوبرا مجموعة أناشيد نابعة من "فن المالد" أو المولد ومن أنواعه: "الهُوامة، والبرزنجي، والديبعي، وكذلك في التيمينة والتسبيح، وغيرها"؛ والذي يمثل القماشة الواسعة التي ينبثق من روحها فن الإنشاد العماني،  ومعنى " مصطلح (مَالـَد) – وِفْقَ ما توصل إليه الباحث في التراث الثقافي العُماني جمعة بن خميس الشيدي -، في "اللهجة الدارجة لبعض أهل محافظة الباطنة هو تصحيف لكلمة (مَوْلِد)، أي موضع الولادة ووقتها، حيث يُقام هذا النمط في الأصل احتفالاً بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاءت تسميته بهذا الاسم. و مصطلح (هُوَامَةْ) يُطلق على الأداء الحركي الذي يُؤديه المُشاركون في بعض الأجزاء المكوّنة لهذا النمط، وهو مشتقٌ من الهُيام: هامَ يهيمُ هُياماً و هيماناً، وهو أعلى درجات الحب والعشق، والمشاركون في المالد (يهومون)، أي يُؤدون حركاتهم المعروفة في المالد، التي هي تعبيرٌ صادق عن ذلك العشق الذي تكنه الصدور لله العلي القدير ولرسوله المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم".
وفرقة رتاج العمانيّة جوقة فنيّة وفتيّة، ورغم صغر سنها الإبداعيّ إلا أنها حجزت لنفسها مكانًا فوق منصة "فن الإنشاد"، والإنتاج الفنيّ الملتزم، وتسعى إلى كتابة اسمها، وتثبيت دعائمها في عالم "الطرب الروحيّ" الذي يتجدد مداه، وتتسع مساحته يوما بعد يوم حول العالم، كما تسعى "رتاج" إلى تقديم "تابلوهات" إنشاديّة تبرز مكانتها الإبداعية، وترسّخ أقدامها الجمالية في "الوسط الفني الهادف"، لتتخذ منه وسيلة لنشر القيم العُمانيّة الأصيلة التي ينطلق منها المجتمع العماني – شامخًا - ، ويتواصل عبرها – واثقًا - بجميع الحضارات والثقافات، و- مستندًا - إلى تراث عريق من التسامح، والتكافل.
ويلتقي فن (المالد العُمانيّ) مع (فن التوشيح أى الترصيع) في العديد من المواصفات وإن اتفقا في المضامين فكلاهما لغويًا يجمع "بين الفصحى والعاميّة"، مع التحرّر – ليس كثيرًا -  من "الوزن والقافية"، والاتكاء على "صناعة النظم" من "تقابل وتناظر واستعراض أوزان وقوافٍ" مبتكرة وطريفة تخرج على النمطيّة السائدة في بناء القصيدة الكلاسيكيّة، وبألحان غاية في الطرافة والجِدة فاللحن في "المالد" و"الابتهالات" يستكثر من "التشكيل والتلوين"، على "موازين خاصة" ليست معهودة في الشعر التقليديّ وأنماط الغناء المعروفة.
وبمصاحبة أنغام فرقة  المايسترو أحمد طه يجتمع ولأول مرة التونسيّ لطفي بوشناق مع المصريّ محمد ثروت في "دويتو"، وينشدان معًا مجموعة من (الابتهالات)، و(المدائح النبويّة)، و"التراثيات الطربيّة" التي ساهمت بشكل كبير في المحافظة على التراث الإسلاميّ الروحي، ونجحت بسهولة في نقل وانتشار قواعد وعلوم اللغة العربية إلى الغرب إبّان الفتح الإسلاميّ – وِفْقَ تعبير الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء –
وسوف يستمتع جمهور الأوبرا السلطانيّة – مسقط  مساء السبت 23 سبتمبر 2017 إلى عازف العود، والتينور التونسي لطفي بوشناق، وهو ينشد ويمازج في خلطة وتركيبة موسيقية عجيبة بين "الروحي الدينيّ وفن التطريب الموسيقي المستند إلى الأصالة، وسيطرب حضور الحفل بأدائه وما يقوم به من تجديد وابتكار في التطريب والأداء، وهو البارع في الجمع بين الحداثة في الترصيع والغناء المعاصر والإنشاد الصوفيّ والابتهالات الدينية" بغية المحافظة على  التراث الموسيقي العريق. وهو الذي منذ انطلاقته الفنية مع بداية سبعينيات القرن العشرين في أروقة المدرسة "الرشيديّة" وتتلمذه يد الموسيقار الراحل علي السريتي، أحد أشهر الموسيقيين في تونس ودأبه على "مصاحبة كبار المطربين والعازفين والملحنين من رموز الموسيقى التونسية يراوح بين الأغنية الحديثة والموروث الشعبي التونسيّ"، و"لا تخلو حفلاته من المواويل العراقية والأغاني الخليجية أو المصرية والقدود الحلبية"، ومن ألبوماته المشهورة: "أسماء الله الحسنى" و"لا تسأل غير الله". وفي عقد الثمانينيات من القرن ذاته بدأ بوشناق يؤلف الأغنيات لغيره، برع في فن الارتجال، ولمّا طبقت شهرته في الآفاق حقّق العديد من الإنجازات تقلّد جائزة "أفضل مطرب عربي" في العاصمة واشنطن عام 1997، ومنحه الأمين العام للأمم المتحدة "كوفي عنان" لقب "سفير السلام العالمي" عام  2004م.
وليس هذا الـ"دويتو" للمصري محمد ثروت والذي يجمعه بالتونسيّ  لطفي بوشناق هو الأول لكل منهما خلال مسيرتيهما الفنيّة الحافلة. فقد كان لبوشناق العديد منها وكان من أهمها وأحدثها مع  الباكستانية عابدة بروين، والفلسطيني محمد عساف "في حضرة البردة".
بينما استطاع مهندس الميكانيكا "محمد ثروت" بصوته المميز الولوج إلى عالم الفن، حيث كان أحد مكتشفات الموسيقار محمد سلطان والذي لحَّنَ (حالة حب) أول أغانيه، ثم أغنية (عاشقين) للشاعر الغنائي محمد حمزة والتي حققت نجاحا كبيرا، وكانت جواز مروره إلى عالم "التمثيل" بعد الغناء، فبلغ مجمل أعمال مسيرته الفنيّة 11 عملا فنيا ما بين أفلام ومسلسلات بالإضافة إلى قيامه بغناء بعض تترات المسلسلات. وبعد نضج واستوى على سوقه حاز صوته على إعجاب الموسيقار الكبير / محمدعبد الوهاب فلحن له أغنيتين نالتا شهرة كبيرة هما: (يا حياتى)، وأغنية (وطنيتنا). وكان اللقاء بينهما لحظة فارقة في تاريخ "محمد ثروت"، دفعته للالتصاق بالفن الأصيل والمحافظة على طابع وشكل الأغنية العربية الأصيلة فالتحق بفرقة الموسيقى العربية فأعاد تقديم تراث أساطين الغناء العربيّ محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ودأب على تقديم العديد من الحفلات الغنائية التراثيّة بمصاحبة فرقة الأنشاد الدينيّ بدار الأوبراالمصرية، وأعاد الأغنية الدينية، إلى مكانتها المرموقة.

تعليق عبر الفيس بوك