مبدأ شفهية المرافعة أمام القضاء الجنائي

 

 

◄ نطالب المشرع العماني بسن نص يلزم المحكمة بعدم السير في إجراءات المحاكمة دون وجود محام عن المتهم

 

د. أحمد العجمي

 

يبدو من الضرورة بمكان في هذا السياق التأكيدُ على مبدأ عدم الخلطِ بين الدعوى الناشئة عن وقوع جريمةِ، والخصومة القضائية الناشئة عنها في قضية الإجراءات الجزائية علةُ ذلك أن الدعوى الجنائية هي الطلب الموجه من الدولة ممثلاً في الادعاء العام - وفقاً لأحكام النظام الأساسي للدولة (101/96) - بصفته ممثل المُجتمع أمام القضاء؛ فضلا عن كونه إقرارٌ بحق المجتمعِ في العقابِ عن طريق إثباتِ وقوع الجريمةِ المخلةِ بأمنِ المجتمعِ ونظامهِ، ونسبتها وفقاً لقرار الإحالةِ وأدلةِ الثبوتِ إلى متهمٍ معينٍ بذاتهِ لكونهِ ارتكبَ ما يمس كيان المجتمعِ، وأمنهِ، وهدّد نظامهُ الاجتماعي.

أما الخصومةُ الجنائية في الدعوى الجنائية ذاتها فهي تشملُ تحريك الدعوى العموميةِ، واتخاذِ كافة الإجراءات الجنائية من جمعِ استدلالات وتحقيق وحتى انقضاء الدعوى بحكم بات يفصل في موضوعِها أو يعتبرُ ذلك من أسباب الانقضاء.

ومن ذلك يستبانُ أنّ الدعوى العمومية هي العمل الأولُ للخصومة الجنائية، ولها عدد من المبادئ، ونطرح على سبيل المثال ثلاثة منها على النحو الآتي:

أولا: علانيةُ الجلساتِ ما لم تقرر المحكمة جعلها جلسة سرية باستثناء قضايا الأحداث فقد أفرد لها المشرعُ نصاً يجعلها سريةً على غير أفراد الخصومةِ.

ثانيها: شفهيةُ المرافعةِ كقاعدة رئيسية من قواعد النظام الاتهامي الذي ظفرت به الإنسانية، فالمُتهم يتمتع بقرينة البراءة، وله الحق الكامل بمحاكمة عادلةٍ تسمعُ كافةُ دفوعهِ سواءً المكتوبة أو الشفوية؛ ذلك أن القاضي الجنائي هو قاضي قناعةٍ ووجدان، وتكوين عقيدته مبني على مبدأ حريةِ الأدلةِ الشفويةِ بمفمومها العامِ بالمرافعةِ وإعادة طرح عناصرِ الدعوى من جديد وجعلها تحت نظر خصومِ وأطرافِ الدعوى العمومية سواءً من قبل الادعاء العام أو المسؤول عن الحق المدني أو المدعي بالحق المدني أو المتهم تحت سمع وبصر ووجدان محكمة الموضوع بما لازمة أن تتقيد بأن تسمع في حضور ممثل الإدعاء العام وأن يطرح أمامها أقوال الشهود وسماع من تم سؤاله بالتحقيق، فضلا عن تحقيق دفاعِ ودفوعِ الخصومِ بما في ذلك إفساح المجال لممثل الإدعاء العام أو للمتهم أو من يمثله طرح أدلة الإثبات أو النفي لكي يأتي الحكم في النهاية مطابقاً لما تم سماعه أو طرحه بجلسة المحاكمة وفقاً لمقتضيات أعمال المادة (220 ج.ج).

لأن من المستقر عليه في القضاء الجزائي بأن المحكمةَ ملزمةٌ ببناء حكمها على المرافعة التي تحصل أمامها، وعلى التحقيق الشفوي الذي تجريه بنفسها بإحدى جلسات المحاكمة، وأشارت المحكمة العليا " المحاكمة العادلة في حق المتهم في الدفاع أثر الإخلال به أسس المحاكمات الجنائية وحيث أنه من المقرر ان حق الدفاع الذي يتمتع به المتهم يخوله حق إبداء ما يعن له من طلبات التحقيق ما دام باب المرافعة ما زال مفتوحاً وكان من المقرر أنه من الأسس الجوهرية للمحاكمات الجنائية قيامها على التحقيق الشفوي الذي تجريه المحكمة بجلسة المحاكمة في مواجهة المتهم وتسمع فيه الشهود سواء لإثبات التهمة أو لنفيها ما دام ذلك ممكناً ثم تجمع بين ما تستخلصه من شهاداتهم وبين عناصر الإستدلال الاخرى في الدعوى المطروحة على بساط البحث لتكون من هذا المجموع عقيدتها في الدعوى الذي يتعين أن ينفسح المجال لتحقيق الواقعة وتفصيلها على الوجه الصحيح غير مقيدة بأي قيد وإلا أنتفت الجدية في المحاكمة وأنغلق باب الدفاع في وجه طارقه بغير حق وهو ما تأباه العدالة أشد الإباء ولما كان ذلك وكان البين من محضر جلسات المحاكمة وذلك للتحقق من الشيكات موضوع الدعوى المطروحة على المحكمة هي شيكات وفاء أو شيكات ضمان ولما كان ذلك وكان الشهود المذكورون أعلاه من شهود الواقعة وسماعهم قد يؤثر في عقيدة المحكمة للفصل في الدعوى ومن ثم فإن المحكمة إذ لم تجب الدفاع إلى طلبه ولم ترد عليه فإنَّ حكمها يكون معيباً بالإخلال بحق الدفاع ما يتعين نقضه وإعادة الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته لتفصل فيها من جديد بهيئة مُغايرة عملاً بالمادة 260 من قانون الإجراءات الجزائية وذلك دون بحث أوجه الطعن الأخرى" (الطعن رقم 458/2013 جزائي عليا جلسة 3/12/2013 ) حيثُ يترتبُ على الترجمةِ الحقيقيةِ لمبدأ شفويةِ المرافعةِ الجنائيةِ لزومُ تحققِ عددٍ من القواعدِ والمبادئ منها إتاحةُ المجالِ للمتهمِ بسماع شهود من قبله وأشارت المحكمة العليا " أن المشرع أخذ بمبدأ شفوية المرافعات والتي تعني أن كل دليل يعتمد عليه القاضي في حكمه يجب أن يكون قد طرح شفوياً في الجلسة وجرت بشأنه المناقشة الشفوية ولا يجوز للمحكمة أن تكتفي بمحاضر التحقيقات بل يجب عليها أن تستمع إلى أقوال الخصوم وشهادات الشهود وآراء الخبراء وتطرح على بساط البحث كافة أدلة الدعوى لكي تستخلص منها في النهاية ما تبني عليه عقيدتها فإذا استندت المحكمة إلى شهادة شاهد أو شهود دون أن تسمعهم أو إلى مستند دون أن تبسط تلك الأدلة للبحث بالجلسة فإنّ حكمها يكون معيباً (الطعن رقم 244/2013 جزائي عليا جلسة الثلاثاء 4/ نوفمبر 2013).

وثالثها: اِلتزامُ المحكمةِ بأن تقرر إعادةَ سماعِ من تم سماعه سواء بمرحلة جمع الاستدلال أو التحقيق بالادعاء العام ومناقشته بحضورِ أطرافِ الدعوى دون أن يكونَ ذلك مشروطاً بتقديمِ طلب من أطراف الخصومة، وللمحكمة التصدي لذلك لكونها متقيدة بتحقيق الأدلة المطروحة أمامها، وللقاضي الحرية المطلقة في بناء عقيدته بإثبات الاتهام.

وبالتالي الإدانة أو الشك، والقضاء بالبراءة، وهنا نعرج على أهداف سماع الشهود بمعرفة المحكمة، والتي تتمثل على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:

تقدير قيمة الدليل، ويعتبر تحقيق هذا الدليل من وظيفة القضاء العادل، والتقدير لا يكون إلا بعد سماعه، ولا يجوز المصادرة على المطلوب سماع شاهد بمقولة إن أقواله لن تنال من شهادات باقي الشهود.

فالثابت أنَّ اقتناع المحكمة أو عدم الاقتناع ينبغي أن يكون مُستمداً من الثقة التي توحي بصدق أقوال الشهودِ أو لا توحي بذلك، ومن التأثير الذي تجريه تلك الشهادات على وجدان القُضاة ونفوسهم عند التفرس بشخصية الشاهد وهو يشهد وهم ينصتون له بأسماعهم. وفضلاً عن ذلك كله، فتحقيقات الادعاء العام وفقاً لأعمال المادة (186 ج.ج) ليس لها حجة مطلقة في الإثبات، ذلك أن عناصر الإثبات تحتمل الجدل، والمناقشة كسائر الأدلة للخصوم أن يقيدوها ويطرحوا الشكوك، والظنون بشأنها دون إلزامهم بأيّ سلوك مُحدد، وعلى المحكمة الاستجابة لطلب المتهم لسماع شهود من قبله متى كان لشهاداتهم أثر محتمل في مصير الدعوى، وإظهار وجه الحق بما يرتاح له وجدان القاضي، ووفقاً لنصوص القانون بما له من دلالالة بينة على اهتمامه بالاتهام.

إلا أنه كذلك أباح السبيل للمتهم وكفل له حق الدفاع ورتب له ضمانات لا يجوز الإخلال بها، أولها سماع ما يبديه من أوجه دفاع، وتحقيقه باعتباره ضمان وقاعدة أساسية عامة من حق الدفاع، بشرط أن يكونَ طلبُ الدفاع متعلقا بموضوع الدعوى. وأشارت المحكمة العليا إلى أنه في الأسس الجوهرية للمحاكمات الجنائية قيامها على التحقيق الشفوي الذي تجريه المحكمة بجلسة المحاكمة في مواجهة المتهم وتسمع فيه الشهود سواء لإثبات التهمة أو لنفيها ما دام سماعهم ممكناً تفصيل ذلك (الطعن رقم 248/2012 جزائي عليا جلسة الإثنين 15/10/2012).

والدفع هو وسيلةُ من الوسائل التي يستعين بها المتهم أو وكيله أثناء المحاكمة، وللمحكمة سلطةٌ واسعة في إحالة الطلب أو طرحه مع بيان أسباب الالتفات عن تحقيق الطلبِ، فمن المقررِ وفقاً للشروطِ المطلوبةِ لإبداء الدفعِ أن يتمَ إثارةُ الدفعِ بالفعلِ على وجهِ الجزمِ والثابت بالأوراق، وثانيها: الأسس الجوهريةُ للمحاكماتِ الجزائيةِ، والتي تقوم على التحقيقِ الشفوي الذي تُجريه المحكمةُ بجلسةِ المحاكمةِ في مواجهةِ المتهمِ وسماع الشهود سواء لإثبات التهمة أو لنفيها ما دام سماعهم ممكناً ثم تجمع من ما تستخلصهُ من شهادتهم، ومن عناصر الاستدلال الأخرى في الدعوى المطروحة على بساط البحث لتكّونَ من هذا المجموعِ عقيدتها في الدعوى، ويتعينُ إجابةُ الدفاعِ إلى طلبِ سماعِ شهودِ الواقعةِ، ولو لم يرد لهم ذكرٌ في قائمةِ شهودِ الإثباتِ.

إنّ المحكمةَ هي الملاذُ الأخيرُ الذي يتعينُ أن ينفسحَ بتحقيقِ الواقعةِ وتقصيها على الوجهِ الصحيحِ غير متقيدةٍ في ذلك التصرفِ بالادعاء العامِ فيما يبينه في قائمةِ شهودِ الإثباتِ، وإلا انتفتِ الجديةُ في المحاكمةِ وأُغلق بابُ الدفاع في وجه المتهم بغير حقٍ، وهذا ما تتأباه العدالةُ أشد الإباء.

كما يتعين أن يكون الدفع قد تم قبل قفل باب المرافعة، وأن لا يكون الدفع قد أثير عرضاً، كما ينبغي أن لا يكون في صيغة تفويض الأمر للمحكمة بمعنى أن ينبغي أن يكون بطلب حاسم يقرع سماع المحكمة. وخامسها: أن يكون قد تمت إثارة الطلب سواء لدى الدائرة الجزائية أو محكمة الجنح المستأنفة أو محكمة الجنايات، فإذا توافرت تلك الشرائط على محكمة الموضوع إجابة الطلب أو الدفع المتصل به وأن ترد عليه رداً صحيحاً سائغاً له سنده من أوراق الدعوى وظروفها الثابتة وإلا أخلّت إخلالاً جسيماً بحقوق الدفاعِ ويعيبُ الحكمَ في ما وصلَ إليه من نتيجة.

هذا ولمّا كان مقرراً بأحكام المادة (217 ج.ج) واتساق ذلك مع مبدأ شفوية المرافعة في الوصول إلى الحكم القضائي حسب العقيدة التي كونها القاضي الجزائي وفقاً لمبدأ الاقتناع القضائي بكامل حريته إلا أنّ ذلكَ مشروطٌ بألا يبني القاضي على دليل لم يطرح بالجلسة؛ حيثُ لا يملكُ القاضي الحكمَ وفقاً لمعلوماتهِ الشخصيةِ على ما راه أو شاهده بعيداً عن منصة القضاءِ أو دون حضور الخصومِ، ذلك أنه ولو افترضنا تكون قناعة ما لدى القاضي من خلال معلومات شخصية كان الواجب عليه التنحي وإبداء أقواله أمام هيئة مُغايرة بصفته شاهداً وليس قاضياً، وللخصوم مناقشة عناصرِ شهادتهِ بحريةٍ تامةٍ ويترتبُ على شفويةِ المرافعةِ وفقاً لأحكام قانون (ج.ج) تلاوة المحكمةِ لقرارِ الإحالةِ ناهيكم عن سؤال المتهم، ومواجهته بأدلة الإتهام؛ حيثُ تسمح بعض التشريعاتِ الدوليةِ للمتهم بتصويرِ ونسخِ الملفِ دون اشتراطِ أن يكونَ له ممثلٌ قانوني فتكون قراءة قرار الاتهام- الإحالة- جوازي لا وجوبي بالمخالفة لأحكام قانون (ج.ج) بدلالة المواد 179، والذي استلزم من المحكمة سماع أقوال سلطة الاتهام، والطلبات بمواجهة المتهم، وإثبات ذلك بمحضر الجلسة. وعلة ذلك أن المشرع بالمادة (178 ج.ج) استلزم لانعقاد الجلسةِ حضور من يمثل الادعاء العام بإعتباره خصمٌ بالنسبة للمتهمِ، وبالتالي فإن تلاوةَ الأوراقِ والمحاضرِ هي أمر قانوني وشكلي بالمقارنة بما تقرره المحكمة لممثلي الدفاع من الاطلاع، وتصوير ملفِ الدعوى قبل وبعد بدء المحاكمةِ فتلاوةُ قرارِ الإحالةِ وأدلةِ الثبوتِ بصوتٍ منخفضٍ لا يُضير من الأمر شيئاً؛ لأن الأهم هو المناقشة الشفوية حول ما يطرح من أدلةِ الاتهامِ لأن الشكَ سندُ البراءةِ.

ولن يظهر هذا الشك بغير مناقشةٍ، ومُرافعةٍ شفويةٍ تقرع سمعُ المحكمةِ لتنطقَ بالحكمِ العادلِ الذي هو عنوانُ الحقيقةِ، وتجسيدُ حقِ الدفاعِ أمام القضاءِ لإعلانِ البراءةِ؛ لأن الأصلَ في القضايا الجنائية أن يكون الدفاعُ شفاهةً لكون مناطِ الاتهامِ متعلقا في صميمه بالأرواح، والحريات، والأموال ويبنى في أساسهِ على الاقتناع.

ومن المقرر قضاء أن الأحكام الجزائية الصادرة بالإدانة يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والتخمين، كما أن أي شك يجب أن يُفسر لمصلحة المتهم لأنَّ الأصل في الإنسان البراءة، وأن الجريمة صورة من صور السلوك الخارج عن المألوف، وبالتالي يتوجب الاحتياط في نسبتها إلى شخص معين استصحاباً لهذا الأصل.

ويترتب على قرينة البراءة – في الوقت ذاته- أن كل شك في ثبوت التهمة يجب أن يفسر لمصلحة المتهم فالأحكام الجزائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال .

ومما خلا ذكره، نجد في هذا المقال فرصة حقيقية ننادي بها المشرع العماني بضرورة إضافة نص ملزم إلى قانون الإجراءات الجزائية يمنع المحكمة من السير بمُحاكمة المتهم لغاية قيام المتهم بتوكيل محامٍ أو تقرر المحكمة ندب محامٍ له للدفاع عنه في محكمة الجنايات؛ وذلك كضمان له نظراً لأن الاتهام بجناية أمر له خطورته بخلاف قضايا المخالفات والجنح، ولا تؤتي ثمرة هذا الضمان إلا بحضور محام أثناء المحاكمة ليشهد إجراءاته، وليعاون المتهم معاونة جدية بكل ما يبتغي تقديمه من أوجه الدفاع عنه؛ وذلك على ضوء ما قرره نظام الدولة الأساسي بالمادة 23: "للمتهم الحق في أن يوكل من يملك القدرة للدفاع عنه أثناء المحاكمة وهذا أكبر تحقيق لمبدأ شفوية المرافعة".

تعليق عبر الفيس بوك