نموذج من الوثائق الآثارية

الكتابات الصخرية في عـُـمان

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان


يعتمد التاريخ كغيره من العلوم الإنسانية على مصادر مكتوبة كالمخطوطات والوثائق و الكتب والدوريات والحوليات والصحف، وعلى مصادر أخرى تسمى (الوثائق الآثارية)  ومن أنواعها النقوش والرسوم والكتابات الصخرية والكتابات المحفورة في الأبواب والسقوف الخشبية ومحاريب وجدران المساجد القديمة  وشواهد القبور. وتعتبر المصادر الآثارية بمثابة وثائق ذات شأن عظيم كونها الشاهد الحي الباقي من أزمنة ما قبل التاريخ لذا فإن استنطاقها يميط اللثام عن تاريخ تلك الحقب ويقدم للباحثين مادة علمية لا غنى عنها. وسوف نركز في هذا المقال على الكتابة الصخرية في عمان باستعراض نماذج مختارة من الكتابات التي ظهرت في وادي بني خروص و مناطق أخرى متفرقة.  
تشير معظم الدلائل الأثرية و التاريخية إلى أن العرب العاربة قد خلفوا أثناء سكنهم الكهوف في جبال شبه الجزيرة العربية (لا سيما في جنوبها الغربي) رسومًا ونقوشًا تصور موضوعات شتى من الحياة المألوفة لديهم، فضلا عن عدد كبير من الكتابات والرموز نقشت على الصخور في أماكن لا يكاد يحصيها العد.  وتعد مناظر الصيد من أهم وأكثر الرسوم شيوعًا آنذاك، وتظهر بعض تلك الرسوم نزعة للتطور من الصور ذات الملامح البشرية والحيوانية الواضحة إلى أشكال عودية تشبه كثيرًا حروف النصوص العربية القديمة (المسند الجنوبي). وقد مرت الرسوم الصخرية في هذه المنطقة خاصة بتسلسل تاريخي طويل تطورت فيه الكتابة العربية من الرسوم الحيوانية والبشرية إلى الحروف الأبجدية المتمثلة في صورة ما يعرف بالخط السبئى أو الثمودي، وهو خط عرب جنوب الجزيرة الذي يعد أقدم الخطوط العربية قبل الإسلام،. وعبارة (الخط الثمودي) تسمية اصطلاحية لهذا النوع من الكتابة العربية القديمة، ولا تعني أن سكان هذه المنطقة أو من قام بكتابة هذه النقوش هم من قبيلة ثمود المذكورة في القرآن الكريم ومصادر التراث العربي.
كشفت التنقيبات والمسوحات الأثرية في السلطنة والجهود الذاتية لبعض الآثاريين والباحثين عن وجود رسوم صخرية تعود للعصر الحجري ( 5000 ــ 10000 سنة) تظهر فيها أشكال لبعض الحيوانات المعروفة وأخرى خرافية وأشكالا آدمية وأشكالا أخرى متفاوتة كالسفن على سبيل المثال. كما عثر على كتابات نادرة لخط المسند العربي القديم في وادي السحتن (بولاية الرستاق على بعد 165كم شمال غرب مسقط بين قريتي الخضراء وفشح). وقد عثر على عدد كبير من النقوش الحضرمية في محافظة ظفار، و نقوش عربية جنوبية على جرار فخارية في موقعي (ميسر9) و(سمد الشأن). واكتشفت كتابات برأس الجنيز (في المنطقة الشرقية) تعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث ق.م.
الكتابات الصخرية في وادي بني خروص:
يقع وادي بني خروص ضمن النطاق الإداري لولاية العوابي التي كانت تسمى قديما سوني. ومما تجدر ملاحظته أن الكتابات الصخرية في هذا الوادي شغلت حيزا مكانيا كبيرا يربو على 30 كيلو مترا ، كما شغلت حيزا زمنيا طويلا إذ وجد نموذجا لخط المسند السبئي القديم، ثم تواصلت الكتابة في العصر الإسلامي واستمرت في العصور اللاحقة. وبهذا يمكن وصفها بأنها كتاب تاريخي وثائقي مفتوح. وقد أشار الشاعر سعيد بن محمد الخروصي  في ديوانه إلى الكتابة الصخرية حين وصف ما كتب في الحجارة الواقعة على الجانب الغربي لمدخل وادي بني خروص، ويتضح أن موضوع تلك الكتابة هو سرد تاريخي لبعض من أهم الأحداث التي شهدتها عمان منذ فترة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1624- 1649) إلى بداية عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (1749 – 1783).
كانت الكتابة تتم  بما يسمى محليا طريقة " القلع " أي غرز أداة الكتابة أو القلم المعدني على سطح الصخرة بواسطة أشخاص كانوا عادة ممن يتقنون الخط العربي وفنونه. وكان الكتبة يتخيرون الصخور البعيدة عن مجرى الأودية أو التي تكون في اتجاه لا يتأثر بجريان الأدوية خشية تأثير الماء.  
تم تدوين الكثير من الأحداث المحلية الهامة المتعلقة بتاريخ المدن التي وجدت فيها هذه الظاهرة بالإضافة إلى بعض الأحداث التاريخية التي وقعت في عمان بشكل عام. وتميزت المواضيع بتنوعها إذ تطرقت إلى الانشغالات المحلية مثل استصلاح بعض الأراضي الزراعية وشق الأفلاج،وتأريخ سنوات الخصب والجفاف، وذكر أنساب بعض الأسر، وتدوين بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأشعار. وتفاوتت أحجام الصخور التي تم التدوين فيها بين ثلاثة أمتار طولا ومترين عرضا وأخرى لم تتعد الكتابة فيها أسطرا قلائل أو حتى سطرا واحدا. كما ترد عدة مواضيع في صخرة واحدة بينما تقتصر بعض الصخور على موضوع واحد. وفي الغالب كانت الكتابة تذيـّل باسم الكاتب الذي قد يذكر نسبه إلى الجد السابع.
إن وجود هذه الظاهرة الثقافية واستمرارها حتى وقت ليس بالطويل يدفعنا للبحث حول أسباب ظهورها، ونعتقد  أن من بين تلك الأسباب ما يلي:
أولا: وجدت في بعض جبال عمان وكهوفها رسومات متعددة الأشكال من أبرزها رسومات لحيوانات كالجمال والخيول، ونظرا للمحاذير الشرعية التي رافقت النحت والتصوير في الفقه الإسلامي فإن التوجه نحو الكتابة الصخرية ربما كان لإشباع الرغبة في ممارسة فن لا يصطدم بقيود الشريعة.
ثانيا: تزامن ظهور الكتابة الصخرية مع ظهور كتابات على محاريب المساجد القديمة في عمان تضمنت آيات قرآنية ، كما زخرفت بعض الحصون والقلاع وبيوت الأئمة والحكام بكتابات جمعت بعضا من الآيات والأحاديث والأشعار والحكم المأثورة. كما وجدت كتابات على شواهد بعض القبور في مناطق مختلفة منها مقبرة الأئمة في نزوى ومقبرة الصلوت في وادي بني خروص. وربما كانت هذه الكتابات حافزا لممارسة فن ثقافي آخر تمت ممارسته على أوجه الصخور.
ثالثا: لم تكن وسائل الكتابة متاحة بسهولة ويسر آنذاك، وربما لم يرغب أولئك الكتبة باستهلاك الأوراق والمداد لكتابة تلك المذكرات التاريخية والأدبية وإنما آثروا كتابة ما اعتبروه أكثر أهمية أي علوم الشريعة واللغة.
رابعا: ربما وجدت رغبة لدى الكتبة في تخليد بعض الأحداث المهمة للأجيال المتعاقبة ويجعلها شاهدا حيا يطلع عليها الناس وقتما شاءوا ولا تكون حبيسة الكتب ولا يطلع عليها إلا الخاصة.

أهمية الكتابة الصخرية باعتبارها من مصادر التاريخ:
ـ تطورت النقوش والكتابات الحجرية من التعبير الإيحائي والرمزي إلى قوالب لغوية بدائية شكلت أساس اللغات، وقد حملت معاني حضارية مختلفة الأغراض و الدلالات، والملاحظ أن بعض تلك النقوش بها أشكال أو لغات غير مفهومة حتى الآن، وربما اندثر بعضها في سياق التطور الحضاري.  
ـ فيما يتعلق بعـُمان فإنني أتفق مع الرأي القائل أن فك رموز الكتابة التي عثر عليها في أماكن متفرقة سيساعدنا في معرفة المجتمع العماني القديم، و سيوفر مزيداً من المعلومات حول الظواهر اللغوية والفكرية في حياة الإنسان العماني القديم، و سنتعرف أيضاً على العلاقات الثقافية بين المجتمع العماني القديم والثقافات والمجتمعات السامية في شبه الجزيرة العربية بشكل عام.
ـ تعتبر الكتابة الصخرية أحد أبرز المعالم الثقافية في عـُمان لعدة اعتبارات من أهمها : انتشار هذه الظاهرة في كثير من مناطق عمان ، وتغطيتها لكثير من أوجه الحياة فيها، كما أن مداها الزمني اتسع أيضا لفترة طويلة.
ـ تبدو الحاجة ماسة لعمل مسح شامل بمواقع الرسوم والنقوش والكتابات الصخرية، ثم دراسة نصوصها دراسة مستوفية علمياً وفنياً من قبل المتخصصين، لتغطية النقص الموجود حاليا عن فترات معينة من التاريخ العماني وإزالة اللبس والغموض عن بعض الأحداث.
إن المادة التي يمكن جمعها ستكون بلا شك غزيرة، إذ قلما تجد ولاية أو وادٍ في عمان إلا وبها مواقع للرسوم والكتابات الصخرية، ومما يروى عن أحد الفقهاء ويدعى سالم بن راشد بن حاتم الخروصي الهجاري قوله: " أدركت في زماني زهرة بلدان الوادي (ويقصد وادي بني خروص) بالصالحين والأخيار، وقد رأيت جملة من صخور الــوادي تؤرخ وفيات عدد كبير من أهل العلم والفقه والفضل والزهادة، ومنها من القرن الرابع والخامس للهجرة المحمدية"
ـ اعتقد أن من بين المزايا التي تتمتع بها الكتابات الصخرية ـ وأقصد تحديدا ما كتب منها في العصر الحديث ـ أنها كتبت من قبل أشخاص على صلة وثيقة بالأحداث، وكان أسلوب كتابتهم في الغالب أسلوبا وصفيا مجردا ومختصرا لصعوبة ممارسة فن الكتابة على الصخور، مما يعني أنهم كانوا ينقلون الأحداث بشكل أقرب للحياد. ومع ذلك ينبغي توخي الحذر والدقة عند التعامل مع تلك النصوص إذ يعتري بعضها ذات الإشكاليات مع النصوص الورقية من مبالغات وروايات خيالية وأسطورية.

تعليق عبر الفيس بوك