انطلاق أول عروض العمل الفني المميز لفيردي على دار الأوبرا السلطانية .. اليوم

"أوبرا عايدة".. قصة الصراع الإنساني بين الواجب والعاطفة في مصر الفرعونية

 

◄ الأوبرا ترتبط ارتباطا وثيقا بمشروع بناء الدولة المصرية الحديثة في عهد الخديوي إسماعيل

 

د. ناصر الطائي*

تدشن دار الأوبرا السُّلطانية مسقط، اليوم الخميس، موسم 2017 – 2018 بأوبرا عايدة للموسيقار الإيطالي جوسيبي فيردي (1813-1901)، والتي تعد أحد أهم الأعمال الأوبرالية الإيطالية وأكثرها أهمية موسيقياً وتاريخياً.

وارتبط اسم الأوبرا بميلاد جديد لأسلوب الكتابة الأوبرالية الإيطالية ولكن الأهم هو صلتها التاريخية بالشرق وبالذات بمشروع بناء الدولة المصرية الحديثة في عهد الخديوي إسماعيل والذي يعد امتداداً لمُنجزات محمد علي باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة.

وجاء ميلاد أوبرا "عايدة" لفيردي باقتراح من صديقه الفرنسي كامبل دو لوكل والذي اقترح عمل لاوجاست مارييه وتدور أحداثها في مصر الفرعونية. وكان فيردي في 1869 قد رفض كتابة لحن يواكب افتتاح قناة السويس ولكنه وافق على كتابة الأوبرا والتي كانت من المفروض أن تدشن افتتاح الأوبرا المصرية الجديدة آنذاك. ولكن ضخامة العرض والحرب الفرنسية البروسية (التي اندلعت في بروسيا بفرنسا) وحصار باريس، أدى إلى تأخير وصول الملابس في الوقت المُحدد. وافتتحت دار الأوبرا المصرية بعرض آخر لفيردي وهو "ريجولتو" والمبني على رواية فيكتور هوجو وبعدها تم عرض "عايدة" لأول مرة في 24 ديسمبر 1871 بنجاح منقطع النظير.

قصة الأوبرا

وتمثل أوبرا "عايدة" الصراع بين الواجب والعاطفة وهي من أربعة فصول وتصنف بما يسمى أوبرا عظيمة

 "grand opera" وتروي قصة الأميرة الحبشية عايدة والأسيرة لدى فرعون مصر، والتي تعيش صراعًا بين حُبها للقائد المصري راداميس الذي يُبادلها نفس العاطفة وواجبها نحو وطنها من ناحية، ومواجهة نيران الغيرة من قبل أمنيريس ابنة فرعون والتي تُشاطرها حبها لراداميس من جهة أخرى، لتنتهي المأساة بدفن الحبيبين داخل مقبرة أحياء. في الفصل الرابع والأخير من الأوبرا يمثل راداميس أمام الكهنة ليتم محاكمته بتهمة الخيانة.. وتحاول أمنيريس ابنة فرعون أن تمنحه الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسه.. وأنها سوف تتدخل من أجل إطلاق سراحه إذا ما ترك حب عايدة لكنه يرفض معلناً أنَّ حبه لعايدة خالد وأنه يفضل الموت عن أن ينفصل عن حبيبته... يرفض راداميس الإجابة على أسئلة المحكمة التي تحكم عليه بالدفن حيًا.. وهنا تتوسل أمنيريس إلى الكهنة أن يشفقوا على حبيبها لكنهم يسوقوه إلى المقبرة ليدفن حيًا. تظهر عايدة فجأة أمامه بداخل القبر معلنة أنها تفضل الموت بجانبه عن أن تعيش وحيدة بدونه وفي آخر محاولة للتشبث بالحياة... يحاول راداميس جاهدًا أن يحرك الصخرة التي تغلق المقبرة عليهما لكن دون جدوى... فيستسلما إلى مصيرهما....ويقوم الحبيبان بتوديع الأرض وفي الوقت الذي يواجهان الموت تحت الأرض، تصلي أمينريس فوق الأرض من أجل السلام.

تركز المقدمة الموسيقية على ثيمتين متضادتين: الأولى في الآلات الوترية والتي ترمز إلى "عايدة" وقدرها المشؤوم في ألحان متضادة والثيمة الثانية أكثر قوة وترمز إلى الكهنة ومكانتهم الروحية وقوتهم السياسية في مصر القديمة وبهذا يكون فيردي قد مهد الطريق للحبكة الدرامية بين قوى متضادة وجسد الصراع بين الخير والشر. ويعتبر المشهد الأخير في أوبرا "عايدة" هو الأكثر عمقاً حيث ينقسم المسرح إلى طابقين: علوي يمثل معبد الكهنة الباهر والمطرز بالذهب وسفلي وهو القبر المظلم الذي سيحتضن الحبيبين ونهايتهما الأزلية.

ينشد العشيقان أغنيتهما الشهيرة والتي ترمز إلى النقاء الروحي وخلاصهما من الحياة وما يزيد المشهد درامية هو الإنشاد الديني للكهنة في الجزء الأعلى من المسرح. "الوداع أيتها الحياة" هي الخلاص الأبدي لراداميس وعايدة حيث يموت العشيقان في القبر المظلم وتتوحد أنغامهما كدليل رمزي على وحدة أرواحهما الأزلية.

*****

تبرز أهمية أوبرا "عايدة" لكونها رمزاً لحركة التحديث المعاصر لمصر والتي قادها حكّام القرن التاسع عشر حين كانت مصر محط أنظار العالم وأطماع الغرب والراغبين في المشاركة في ميناء الدولة الحديثة. وكانت مصر بتاريخها وإرثها الأركيولوجي العميق تمثل سحراً وولعاً لايُمكن مقاومته. وقد ازداد الافتتان الغربي بمصر وحياتها في عصر الخديوي إسماعيل؛ حيث شيدت القصور والمتاحف وتم تخطيط مدينة القاهرة على نمط أوروبي بميادينه الفسيحة وشوارعه الواسعة وقصوره وحدائقه وجسوره. وأصبحت القاهرة الحديثة مثلاً للمدينة الحديثة بسككها الحديدية ومشاريعها الصناعية العملاقة ومنها قناة السويس. وشكلت "دار الأوبرا الخديوية" تتويجاً لمعالم المدينة الحديثة التي تجمع بين تراث عريق وبنية صناعية حديثة واستقرار أمني واقتصادي وانفتاح ثقافي على العالم تكون فيه العروض الأوبرالية والموسيقى جسراً للحوار الإنساني بين الشعوب ولبنة من لبنات الثقافة الدبلوماسية.

وأصبحت الأوبرا المصرية بعد بنائها رمزاً من رموز النهضة المصرية المعاصرة وإيماناً من الخديوي إسماعيل بأهمية الفنون الرفيعة لرقي المجتمع المصري في تلك الفترة وتواصله الثقافي مع العالم. وصمم الأوبرا المصرية معماريون إيطاليون وأبلغهم الخديوي إسماعيل بأن رغبته هي أن تبدو القاهرة وكأنها عاصمة أوروبية تمهيداً لافتتاح قناة السويس. وحضر الافتتاح الكبير الإمبراطوره "أوجيني" زوجة "نابليون الثالث" والإمبراطور "فرانسوا جوزيف" عاهل النمسا وولي عهد بروسيا ونخبة كبيرة من الأدباء والمفكرين.

ختاماً، تمثل أوبرا "عايدة" لفيردي إنجازاً قومياً وفنياً لمصر الحديثة وتمجد تاريخ مصر وهيبتها في إطار حب إنساني وموسيقى سامية كتبها واحد من أعظم المؤلفين في عصره وشكلت دار الأوبرا المصرية مدخلاً لهوية مصرية جديدة تمزج بين الشرق والغرب وخطوة من خطوات بناء دولة حديثة تجمع بين تراث الماضي وتقنيات الحاضر. وانطلقت من الدار- في شكلها الحديث- عدّة مشاريع فنية منها فرقة باليه أوبرا القاهرة وأوركسترا أوبرا القاهرة السيمفوني، والفرقة القومية للموسيقى العربية، وفرقة الرقص المسرحي الحديث. وتقيم الأوبرا صالونات ثقافية ومعارض للفن التشكيلي وتحتضن سنوياً مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية لتعكس الحراك الفني العربي والعالمي وأصبحت "عايدة" ملحمة مصرية خالدة عبر العصور تنظر إلى الماضي وتبعث الأمل لمستقبل مشرق يسوده الحب والسلام.

 

 

*مستشار مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية مسقط

تعليق عبر الفيس بوك