من أدب الرحلات:

رحلة مع نزار قبَّاني في حواري دمشق (1 - 2)

رشا فاضل/ روائية وقاصة عراقيّة - بيروت

(1)
(نزار، شهوة الجرح لآهٍ يلوذ بها ، وشهوة الحرية لصهيل يرتقي سلّم الشمس، وشهوة حبري لفضح الجرح ، وهو يعانق الوجوه خلف العباءات البيض كان لزاما على حروفي أن تحبو إليك..أن تقتفي أثر الياسمين العالق في (مئذنة الشحم) أن أطرق باب صمتك بيدين ترتعشان لهفة لعناق هواء تنفسته ذات شعر، لأعانق بأصابعي قرميد بيتكم ، وبقايا خضرة(أم المعتز) في باحة عطركم ، لكن الدار كانت صماء ، فلم تسمع نداء الشوق وهو يطرق أصابعي ولم تلتمع على جدرانه دموع اللهفة، وهي تبحث عن ملاذ له ضحكة عينيك ، كانت المرايا مطفأة ، والقرميد يعلوه غبار العابرين، كان الموت يرمي بصمته على مزلاج انتظاري ، لم يفتح الباب أحد ، فقد أعلن الباب احتجاجه، وأعلن المساء رحيله بلا نجوم ، غير أن مقبرة (باب الصغير) ، كانت تشهد في ذلك المساء صخبا ..تجمع حوله الموتى زحفا ، فوق موتهم  لينصتوا بشغف ، لخضرة عينيك وهي تتلو ، قصيدتك الجديدة ، تلك التي لم تطالها الفؤوس والبنادق ، فقد كانت قامة قبرك أطول من أعناقهم ، وناصية قصائدك، تجانب النجوم ، وموتك الفارِه ، تحفه الزرقة  ، بموكب شعري مهيب).
 (2)
(لأنك نزار، الشاعر الذي منحني صداقته قبل أن يمنحني شعره، وأمسك بيدي وعلمني أن الحبر نافذة الحرية والكرامة والإنسانية التي وعيت على استلابها بمسميات شتى ..لأنك نزار الذي أمسك بمنديل حنانه وراح يمسح عن وجهي تلك الدموع المملّحة بعلامات الاستفهام، ويغسل الخوف عن جبهة قلبي  ويجلسني على حجره ويعلمني أبجدية الشمس نكاية بالظلام الذي أقنعوني إنه قدر وإن مخالفته ستجلب لي اللعنات ، وكنت سعيدة بتلك اللعنة التي أصبحت قدري منذ دخولي مملكتك، هل يكفي أن أزورك لأقول لك هذا الجميل والعرفان ؟ أعرف إني جئت متأخرة.. وهذا قدر الفرح الذي يأتي متأخرا والعناق الذي يأتي بعد أن يلوي أعناقنا انتظارا.. لأنه أتى متأخرا عن العمر بعمر لكنه.. يبقى عناقا.. وفرحا أكيدا كفرحي الذي يدب في صدري وأنا أسعى إليك رغم وعورة الدرب كنت أؤمن أن مجيئي إليك سيكون محفوفا بملائكة الرب الذي رسم لي خطواتي نحوك وقادني كما يقود طفلة إلى صفها الأول ..وكنت الصف الأول الذي ارتبكت خطواتي إليه شوقا واندهاشا؛ لطالما كنت أؤمن بالأشياء القدرية التي تقودنا إلى حتفنا وسعادتنا وتعاستنا أيضا ؛ لذا فلم يكن من قبيل المصادفة أن يصدر كتابي من القاهرة ليتصل بي الناشر إسلام شمس الدين في دمشق ليعطيني عنوان القاصة ميس عباس التي تزامن صدور مجموعتها القصصية مع مجموعتي؛ كانت فرصة جميلة أن أتعرف على ميس التي كانت تسكن في طرطوس وليس دمشق مما صعب علي لقاءها للحصول على بعض نسخ الكتاب مع ذلك قررت أن اسألها فيما إذا كانت تعرف الطريق إلى بيت نزار قباني !
وكانت دهشتي وأنا أسمع جوابها وهي تعطيني رقم أحد الأصدقاء الذين يسكنون في مئذنة الشحم وهو رجل (خِتْيَار) على حد قولها ويعرف كل شيء عن منزل نزار لأنه يقع بالقرب من محلّه  
يالـ الدهشة.. صاح القلب !جهّزت كاميرا القلب ورحت أغيب في زحمة الشوارع الدمشقية الضاجة بالعراقة والقدم ..كان قلبي يخفق وشعرت إني ذاهبة لموعد عشقي! هذا ما أكدته لي رجفة أصابعي وهي تمسك بالقلم والدفتر الذي أردت أن أُدوّن به كل شيء عن لقائي بك؛ فالعاشقة تصاب بنوبة نسيان وغباء مدهش وأتصور من هذا المنطق غنت شادية في زمن الأبيض والأسود  (ييجى أبويا يطلب فنجان قهوة اعمله شاي وأديه لأمي!) لذا كان عليّ أن أتغلب على هذا النسيان بذاكرة من حبر وبياض. كانت السيارة تجتاز الزحام في طريقي نحو (مئذنة الشحم) التي أصبحت صرحا ثقافيا أثّثه انتمائك لأحد أحيائها وصرحا سياسيا تعبويا  فقد كانت تشكّل في عهد الانتداب الفرنسي مركزا للمقاومة حيث تعقد في أحيائها الفقيرة الاجتماعات السرية وتلقى في بيوتها الصغيرة الخطب الثورية التعبوية، وأدرك اللحظة  أن ذلك لم يكن بمحض الصدفة! أن تكون مئذنة الشحم مركزا ثوريا وفي الوقت ذاته مركزا شعريا انطلقت منه شرارة القصيدة النزارية التي أتت على تبن الكلام وأشعلت النار في ثياب المتثاقفين وأنصاف الشعراء!)

 (3)
( في قلب دمشق تماما ، وعند مدخل سوق (مدحت باشا) تحديدا..توقفت السيارة وأعلن السائق أن علي المشي واجتياز السوق المسقوف  لكي أصل إلى مئذنة الشحم حيث تنتظرني خضرة عينيك !كان ذلك مبعث بهجة أخرى أن أطأ بأقدامي شارعا كنت تسير عليه ذات يوم أن أجول بنظري تلك الدكاكين الصغيرة وهي تبيع القهوة لأتساءل كم قصيدة كتبت تحت تأثير هذه القهوة المسكرة ؟ ومن أي محل ترى كنت تبتاعها ؟ صوتك يدوي وأنت تردد في أسماع قلبي:؛
[زِرَاعَةُ القَلْبِ تَشْفِي بَعْضَ مَنْ عَشِقُوا، وَمَا لِقَلْبِي ـ إذا أحْبَبْـتُ ـ جَـرَّاحُ ، مَـآذِنُ الشَّـامِ تَبْكِـي إِذْ تُـعَانِقُـنِي ، وَ لِلمَـآذِنِ .. كَالأشْـجَـارِ.. أَرْوَاحُ، لليَاسَمِـينِ حُقُـوقٌ في مَـنَازِلِنَـا، وَقِطَّةُ البَيْـتِ تَغْفُـو حَيْـثُ تَرْتَـاحُ ، طَاحُونَةُ البُنِّ جزْءٌ مِـنْ طُفُـولَتِنـا  فَكَيْفَ أَنْسَـى ؟ وَعِطْـرُ الهَيْلِ فَوَّاحُ].
كنت أتجول وفي قلبي رغبة لأسأل كل بائع وكل عابر عنك ..فيما إذا كانت له صلة بك، أو كان قد التقاك مرة، أو شتمك مرات في هذا السوق، كانت تتجلى دمشق العريقة كما لا تتجلى في أي مكان آخر، كان السوق موازيا لسوق الحميدية الشهير ألذي يقصده السائحون من كل مكان، لكن سوق مدحت باشا كان يختلف بمحتواه ورائحة التأريخ التي تفوح من محاله القديمة التي تبيع كل شيء يذكّرك بتأريخ دمشق، وبالتالي يذكرني بك !كان هذا السوق مدخلا لعالمك، كأنني دخلت ثقبا في الزمن أخذني إلى زمنك الذي أحببته بخيره وشره، السجاد الدمشقي والأقمشة الفاخرة على الجوانب تقابلها الأعشاب ورائحة القهوة تلك القهوة التي بقيت عالقة في ذاكرتي وأنا أقتفيك، فالذاكرة عطر، والعطر ذاكرة لا يطالها النسيان، فكم من وردة ذبلت وبقي عطرها يمارس احتلالا غامضا لذاكرتنا، وكم من حكاية انتهت لكن عطرها ظل يداهمنا وينكأ جرحنا !عاشقة تائهة تبحث عن خطاك كنت أنا، في حضرة غيابك المتفاقم حضورا ضوئيا يقتفيه قلبي في كل خطوة، لكن أقدامي كانت تستعجلني للدخول إلى حي مئذنة الشحم لأبحث عن السيد حسام جبارة الذي دلتني عليه معجزة بيضاء اسمها ميس !وحسب الوصف الذي أعطاني إياه السيد حسام جبارة وجدتني في مدخل حي مئذنة الشحم !كان ذلك بحد ذاته كفيلا بأن يجعل قلبي ينبض بسرعة ألف حصان مجنون !فقد اقترب الموعد! وكل حجر يرسم خطواتك أمامي، هنا، كنت تسير ذات قصيدة، وهنا كنت تقتفي أثر امرأة أحببتها كما أقتفيك اللحظة، وعند هذه الشرفة انتظرتك إحدى المعجبات لترمي الورد لأناقة خطوك؛ هذه الحواري الضيقة، الكالحة، المعتّقة بالعراقة كانت تبدو لي أجمل من البنايات الفارهة العارية الظلال والتأريخ، مباني بلا ماض ولا مستقبل، بلا ظلال أو معنى، مجرد أحجار ملونة لا روح فيها، عند ناصية كل شارع كنت أرى وجهك يرافقني، يأخذ بيدي وأنت تلومني لأني قطعت كل هذه المسافة لأقتفيك قصيدة أتفيء تحت ظلالها الوارفة! وكنتَ بذلك اللوم المحب تستعجل خطواتي التي لم يتبق أمامها إلا أمتار قليلة تفصلها عنك.. عن جنوني الذي بدأ حي (مئذنة الشحم) يضيق به ويشفق عليه!

(4)
(لا بد من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري، والمدخل الصحيح إليه. وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة، ومنتزعة من إطارها. هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة) من أرض بلقيس الراوي، بلقيس العراقية التي أنجبتها بغداد وابتلعتها حرب القبائل، جاء الحنين يسعى إليك، ولأنها كانت خاتمة نساءك التي جعلتك ناسكا في محراب عشقها وناقوسا يدق الحزن كل ليلة تسجل في سجل السماء غيابها، كنت أعرف إنك ستنتظرني عند ناصية بيتكم، لتأخذ بيدي وتمسح عن جبيني غبار المسافات، فلنا بك صلة شعر وحب ودم؛ دم الحياة والموت الذي كتبك في أقسى قصيدة ما تزال حتى هذا اليوم تضرب بقيعان قلوبنا لتتفجر الروح آبارا من دمع سخي:
 [بلقيس؛ كانت أجمل الملكات في تأريخ بابل، بلقيس، كانت أطول النخلات في أرض العراق، كانت إذا تمشي ..ترافقها طواويس ، وتتبعها أيائل ،، بلقيس يا وجعي، ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل ، يا هل ترى ، من بعد شعرك هل سترتفع السنابل؟ يا نينوى الخضراء، يا غجريتي الشقراء، يا أمواج دجلة، تلبس في الربيع بساقها، أحلى الخلاخل].
حكاية حب ورحيل تعّرش كل عام فوق أصابعي لأملأ الأفق بحزن كثيف؛ مثل هذه الجراح تظل طفلة في رحم الذاكرة ولا تبلغ سن الرشد كما قالت عنها قريبتك غادة السمان التي شهدت هذا الزلزال معك وفشلت في ترميمه؛ هي التي كانت ترمم كل جرح بالكلمات وتبتكر عند كل خيبة صفحة بيضاء لتبدأ من جديد.
اتصلت بالسيد حسام لأعرف إن كنت أسير في الاتجاه الصحيح فأكد لي إنه لا يبعد عني سوى خطوات وسيعرفني حتما رغم إنه لم يشاهدني قبلا؛ لم أشك لحظة في إنه سيفشل في التعرف علي فالعاشقة يفضحها نبضها وصوتها وكان يكفيه أن يسمع لهفتي في السؤال عنك، ليعرفني ويميزني بين عشرات النساء، كان الشارع ضيقا و لا يكاد يتسع لمرور سيارة واحدة حتى إن إحدى السيارات التي عبرت خلاله اضطرتني إلى الالتصاق بالحائط وسحب نفس عميق لكي لا ألتصق بها، لم يطول مسيري حتى جاءني السيد حسام الذي عرفته من ابتسامته التي سبقت خطاه نحوي  وقد منحني اهتماما حقيقيا وقدّم لي مساعدة كبيرة يسّرت لي الكثير وسهلت علي أمر لقائي بك).

تعليق عبر الفيس بوك