بين لوحين

راشد بن سباع الغافري

بين اللوح الخشبي الذي استخدمناه للتعلم في السبعينات واللوح الإلكتروني الذي يضيء اليوم بين أيدينا وأيدي أبنائنا مسيرة طويلة من الصبر والعزم والأمل في سبيل نشر العلم والتَّعلم على هذه الأرض الطاهرة.

مسيرة وطنية انطلقت من بين جدر الطين وسعف النخيل وظل الشجر إلى مبان أسمنتية تعج بالتقنيات الحديثة والبرامج المُتطورة، وهي بلا شك مسيرة تؤكد على صحة المسار وعلى كفاح شعب وحكمة قيادة.

بين اللوحين شموع سنوات تضيء أعوام نهضة بدأت واستمرت على تقديس العلم وتقدير العُلماء، وسعت جاهدة لتنقية الجيل تلو الجيل من براثن جهل مُدقع، آخذة بهم إلى نور التَّحضر والتَّبصر والتفكر، ومواكبة العلوم الحديثة.

مازال في مُخيلتي ذلك اللوح النيلي والذي كان رفيقنا إلى مدارس القرآن، ولطالما كتبنا عليه آيات من الذكر الحكيم، وكتبنا فيه أساسيات من لغتنا العربية في رسم كلماتها وتشكيل عباراتها، ورددنا برفقته أناشيد في نقاط الحروف وإعرابها.

لوح حملناه أثناء إنشادنا لتيمية ختم أحدنا للقرآن ليدلل على جهد بذل وعلم استقر في القلب.

من خلال ذلك اللوح الخشبي نيلي اللون انطلقت الأفواج المُحبة للعلم والمُتطلعة لمستقبل مشرق لعمان، وتسابقت نحو تحقيق الأهداف وتطبيق الأفكار التي نادى بها قائد النهضة في عُمان.

واليوم نجد اللوح الإلكتروني بين أيدي أبنائنا وأحفادنا وهو بالتأكيد ليس للتسلية والترفيه فحسب، وإنما من أجل خوض غمار العلم الحديث بكل تفاصيله وتقنياته وتحديثاته.

اللوح الإلكتروني اليوم لم يكن يوماً حكرًا لمؤسسة دون أخرى وإنما انطلقت كثير من المؤسسات العامة والخاصة لترسيخ فكرة التعامل مع هذه التقنيات والغوص فيها والعمل على توظيفها إيجابيًا في كل مناحي الحياة العمانية الوظيفية منها والمجتمعية.

ونحن على يقين بأن أبناءنا قادرون على وضع بصمة لهم بين أقرانهم في أنحاء العالم في مجال التقنيات الحديثة، وكلنا ثقة في أنهم أهلٌ للإبداع بكل ماتحمله الكلمة من معنى.

فالجيل الذي انطلق مع اللوح الخشبي وأثبت جدارة واضحة في قدرته على تحمل مسؤولية الاستمرار في تجديد الحضارة العُمانية ونقلها للعالم، لا شك أنَّ أبناءه وأحفاده قادرون هم أيضًا على إثبات الذات وتجديد الحضارة والفكر العماني وإيصال صوته وصورته إلى كل أنحاء المعمورة.

هكذا كانت مسيرة العلم في نهضة عُمان تتطور بتطور الزمان وتأخذ بالأسباب وتنطلق بكل ثقة، تفيد وتستفيد وتنفتح على جميع الحضارات ليقينها التام بأنها تنطلق من أسس راسخة وحضارة ضاربة في جذور التاريخ.

وإن كان من إشادة في هذا الإطار فإننا نوجهها للقائمين على مبادرة الابتكار في صحيفة الرؤية، والتي من خلالها يثبت أبناء عُمان أنهم قادرون على مواكبة التقنيات ليس تعاملاً فقط وإنما إنتاجا وابتكارا فطوبى لهم جميعًا.

ما نأمله هنا من أبنائنا ألا تكون مشاركاتهم في هذه المُبادرة لمجرد المشاركة أو لتحقيق مراكز متقدمة فقط، وإنما نأمل منهم أن يكون ذلك دافعاً لمزيد من العطاء وحافزا للاستمرار في الإبداع بكل ألوانه.

وبالمُقابل فإننا نأمل من مختلف المؤسسات الحكومية والخاصة العمل على تبني ورعاية هؤلاء المبدعين والأخذ بيدهم نحو آفاق المستقبل التقني الرحب وتوفير الإمكانيات والدعم الماديين حتى يتمكنوا من وضع بصمتهم العمانية الحديثة في هذا العصر الذي لا يعترف إلا بالمُبدعين والقادرين على التعامل مع العلوم الحديثة.

بين لوحين صورة مُشرقة من العطاء العُماني في مختلف العلوم والمجالات، وهي بلا شك صورة تطورت بتطور الأجيال المتعاقبة من أبناء عمان، فاللوح الخشبي الذي رافقته مصطلحات من مثل  "القص والبخشة والمغر وحجر الطبشور" والتي قد لا يدرك معناها جيل اليوم فإنَّ لهذا الجيل مصطلحاته التي ترافق اللوح الإلكتروني الذي يتعامل معه والتي قد يشكل فهمها لدى جيل الأمس كمثل "البرامج والتطبيقات" الحديثة، وهذا أمر طبيعي في ظل التطور المتسارع للعلوم وهو يدلل أيضًا على تطور تلك الصورة الحضارية التي عرف بها العُماني جيلا بعد جيل والتي مكنته دائمًا من التكيف والتطور في مختلف الأزمنة ومع مختلف العلوم.

تعليق عبر الفيس بوك