سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (1)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ
سألني أحد طلابي في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الشورى: الآية 25) لماذا ورد هنا: يقبل... عن، والمستعمل: يقبل... من؟ فقلت: يا ولدي، لكي يكون الجواب وافيا تعال نستقرئ ما ورد في القرآن الكريم من صور التعبير بـ(قبل من/ عن) الذي جرى على ما استعمله العرب في لسانهم، وارتفع عنه (نظما) و(إعجازا):
أولا - الفعل: (قَبِلَ):
ورد في سورة (البقرة) مرتين: في الآية (48):﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾، وورد في سورة (آل عمران) مرتين: في الآية (85): ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. وفي الآية (91):﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾.، وورد في سورة (التوبة) مرتين: في الأية (54):﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾وفي الآية (104):﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، ثم جاءت في سورة (الشورى الآية 25) موضع السؤال.
ثانيًا - الفعل: (تقبَّل):
ورد في سورة (البقرة) في الآية (127):﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وورد في سورة(آل عمران) الآية (35):﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وورد في سورة (المائدة) أربع مرات: في الآية (27):﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.وفي الآية (36):﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وورد في سورة (التوبة) الآية (53):﴿قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ  إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، وورد في سورة (الأحقاف) الآية(16): ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾.
ونعرض هنا أولا ما ذكره أصحاب المعجمات في مادة (ق ب ل): فقد جاء في (كتاب العين- طبعة المخزومي والسامرائي): "والتقبّل: القبول، يقال: تقبّل الله منك عملك، وتقبّلتُ فلان من فلان بقبول حسن"، وجاء في (المحكم والمحيط الأعظم): "والله يقبل الأعمال من عباده وعنهم"، وجاء في (أساس البلاغة): "وقبِل الهبة، وقَبِل منه النصح، وقَبِل الله عن عبده التوبة (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده)، وقَبِل الله عمله، وتقبّله"، وجاء في (لسان العرب): "والله عَزَّ، وجَلَّ يقبل الأعمال من عباده، وعنهم ويتقبلها، وفي التنزيل العزيز﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾".
التعليق:
لقد اتفق أهل اللغة على أن :قَبِلَ من، وقَبِلَ عن، وتقّبلَ، بمعنى واحد، واستشهدوا بالآيتين من موضع السؤال.
نظرة في (عن) عند النحاة:
ونعرض ثانيا ما ذهب إليه النحاة في (الحروف)، فكان لهم من ذلك بحث مستفيض، لنقف عليه، ونوزعه على مباحث ثلاثة: فمن النحاة من سرد حروف الجر، وذهب إلى معانيها، وترجحوا بين من ذكر أنّ لها معنى واحداً لا تتجاوزه، ومن قال بتعدد معانيها حقيقة أو مجازا. وما يهمنا هنا حرف الجر (عن): فسيبويه (ت نحو 180هـ) ذهب إلى أن له معنى واحداً، فقال :"وكذلك رويته عن زيد، أضفت الرواية إلى زيد بـ(عن)".
وذكر الزجاجي (ت 340هـ) له أربعة معان، فقال: "عن مكان (على)،و عن مكان (بعد)، وعن مكان (من أجل)، وتستعمل بمعنى اللام"، والرماني (ت384هـ) ساق له أربعة أيضا، فقال: "وأما كونها حرفا فهو (المجاوز)، وقد تأتي بمعنى (الفاء)، وتأتي بمعنى (بعد)، وتأتي بمعنى (على)،"وتكون مكان (بعد)"، وذكر الزمخشري (ت538هـ) لها معنيين، فقال :" فصل (عن)...وعن للبعد والمجاوزة"، وفصّل ابن يعيش (ت643هـ) في بيان هذين المعنيين، ومثل لهما، ولم يزد عليها.
وذكر المالقي (ت702هـ) لها خمسة معان، فقال:" حرف جر ولها في ذلك معان: الأول: المزايلة، والثاني: أن تكون بمعنى بعد، والثالث: أن تكون بمعنى على، والرابع: أن تكون بمعنى من أجل، والخامس: أن تكون بمعنى الباء".
وكان للمرادي موقفان (ت749هـ): الأول: في كتابه: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، وذكر لها فيه ثلاثة معان، فقال:" الأكثر في (عن) استعمالها للمجاوزة، وقد تجيء موضع بعد ، وقد تجيءموضع على"، والثاني: في كتابه: (الجنى الداني في حروف المعاني)، وقد ذكر لها فيه ثمانية معان، فقال:"وتكون (عن) حرف جر، وذكروا لها معاني: الأول: المجاوزة، والثاني: البدل، والثالث: الاستعلاء، والرابع: الاستعانة، والخامس: التعليل، والسادس: أن تكون بمعنى (بعد، والسابع: أن تكون بمعنى (في)، والثامن: أن تزاد عوضا"، وكان لابن هشام (ت761هـ) موقفان أيضا، الأول في كتابه: (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)، وذكر فيه أربعة معان لكنه في الثاني سرد لها عشرة معان، وفي كتابه الفذ: (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)،ولم يستدرك عليه بعد ذلك أحد، فقال: "(عن) على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون حرفا جارا، وجميع ما ذكر لها عشرة معان: أحدها: المجاوزة، والثاني: البدل، والثالث: الاستعلاء، والرابع: التعليل، والخامس: مرادفة (بعد)، والسادس: الظرفية، و السابع: مرادفة (من)، والثامن: مرادفة (الباء)، والتاسع: الاستعانة، والعاشر: أن تكون زائدة للتعويض عن أخرى محذوفة" ووجدنا الأشموني (ت760هـ) في شرحه، والسيوطي (ت911هـ) في (همع الهوامع)، يكرران المعاني التي سردها ابن هشام، ولم نجد بعد ذلك من أضاف معنى جديدا، وهذا مبلغ ما انتهى إليهم وإلينا من معاني(عَنْ).
تناوب الحروف:
من خلال ما وقفنا عليه في (الحروف) وجدنا أن من النحاة من يذهب إلى (تناوب الحروف) التي شكلت مسألة خلافية لم يجزها البصريون، وأجازها الكوفيون، وقد ناقش هذه المسألة تفصيلا الدكتور محمد حسن عواد في كتابه: تناوب حروف الجر في لغة القرآن، وانتهى إلى "إبطال وقوع بعض حروف الجر موقع بعضها الآخر؛ لأن في ترخيصهم هذا إشاعة للاضطراب اللغوي والحق أن المسالة راجعة إلى التركيب وإلى دلالات الألفاظ".
ونحن نتفق مع هذا الرأي؛ فالسياق وموضع الحرف من التركيب يحددان المعنى المقصود. وأفردت الباحثة د. هدى محمد متولي إبراهيم السداوي كتابا عنوانه: (عن- في اللغة العربية والقرآن الكريم)، ووقفت على الآية مدار البحث، ونقلت ما  قاله النحاة والمفسرون بإيجاز، وخلصت إلى رأي فيها، وقالت في تعقيبها على رأي القرطبي الذي يذهب إلى أنّ (عَن) بمعنى (مِن):" ولكن الصحيح أن (عن) مقصودة لذاتها"، ولم تفصح عما تعنيه بذلك، فلا يختلف اثنان في أنَّ (عن) في الآية مقصودة لذاتها، ولا تَحْسُن (مِن) أن تقوم مقامها في الآية؛ لا معنى ولا استعمالا.
التضمين:
وتفرع من (تناوب الحروف) مسألة أخرى أطلق عليها (التضمين)، وشاعت حتى قال ابن جني(ت392هـ) في الخصائص: "اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه"، وجرى في ذلك خلاف أيضا حتى بلغ هذا العصر، ودعا مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى بحث موضوع (التضمين) في دور انعقاده الأول، وبعد مناقشات ضافية أصدر قراره بقياسية (التضمين) بشروط ثلاثة، وقد اعترض الأستاذ عباس حسن عليه تفصيلا، وتابعه الدكتور محمد حسن عواد، فأثبت " بطلان مسألة التضمين بطلانا تاما" وإنني أوافقهما الرأي؛ لأنّ "التعدي واللزوم بحسب المعنى" على ما رآه الرضي الأستراباذي (ت686هـ) في شرحه الكافية. وليس لنا إلا أن نكرر ما قالته الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في كتابها: الإعجاز البياني للقرآن ومسائل نافع بن الأزرق: ما من حرف في القرآن الكريم تأولوه زائدا، أو قدَّروه محذوفا، أو فسَّروه بحرف آخر إلا يتحدى بسره البياني كل محاولة لتأويله على غير الوجه الذي جاء به البيان المعجز". وهذا يعزز قناعتنا فيما نذهب إليه.
المراجع:
(1)    سيبويه: الكتاب، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، ط2، 1982م، 3/640.
(2)    الزجاجي: حروف المعاني، تحقيق علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1984م، ص79-81.
(3)    الرماني: معاني الحروف، تحقيق عبدالفتاح شلبي، نهضة مصر، القاهرة، 1973م، ص95.
(4)    الهروي: الأزهية في علم الحروف، تحقيق عبدالمعين الملوحي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، ط2، 1993م، ص278-281.
(5)    الزمخشري: المفصل في صنعة الإعراب، تحقيق إميل بديع يعقوب، ص371.
(6)    ابن يعيش: شرح المفصل، طبعة إميل بديع يعقوب، 4/499- 502.
(7)    المالقي: رصف المباني في شرح حروف المعاني، تحقيق أحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط3، 2002م،ص429-432.
(8)    المرادي: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، تحقيق عبدالرحمن علي سليمان، 2/760-761.
(9)    المرادي: الجنى الداني في حروف المعاني، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، ص245-249.
(10)    ابن هشام: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، طبعة محمد محيي الدين عبدالحميد، 3/43.
(11)    ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمدالله، 1/196-198
(12)    ينظر شرح الأشموني، 1/470.
(13)    السيوطي: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، تحقيق عبدالعال سالم مكرم، عالم الكتب، القاهرة، 2001م، 3/189-192.
(14)    محمد حسن عواد، تناوب حروف الجر في لغة القرآن،دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ص5.
(15)    السابق ص20.
(16)    هدى محمد متولي إبراهيم السداوي:(عن) في اللغة العربية والقرآن الكريم، مركز آيات للطباعة والكمبيوتر، الزقازيق، 1423هـ= 2002م.
(17)    السابق، ص201.
(18)    ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة،ط2، 1955م، 2/308.
(19)    عباس حسن: النحو الوافي، دار المعارف، مصر، ط4، د.ت، 2/564-595.
(20)    ينظر: تناوب حروف الجر في لغة القرآن، ص81.
(21)    رضي الدين الأستراباذي: شرح الكافية، تحقيق يوسف حسن عمر، 4/136. وينظر: بحثنا المستفيض (تعدي الفعل ولزومه بين الدرس النحوي والاستعمال القرآني) المنشور في كتابنا: قضايا مطروحة للمناقشة في النحو واللغة والنقد، دار أسامة للنشر، عمّان، الأردن، 1998م، ص42-70.
(22)    عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ): الإعجاز البياني للقرآن ومسائل نافع بن الأزرق، ص125.
(23)    التوبة/104.

تعليق عبر الفيس بوك