تشكيل الصورة وبِنْيَة القصيدة في "انشغال الغيم" (2)

...
...
...

د. سعيدة خاطر
في المقالة السابقة تحدثنا عن مستويات (الفقد) ودلالاته في ديوان “انشغال الغيم” للشاعر أحمد بن محمد المعشني والذي يتكون  من 59 قصيدة في مختلف الأغراض الشعرية، وفي هذه المقالة سوف نستعرض التكوين الفني والمعمار البنائي وتشكلات الصورة الشعرية داخل الديوان بأجمعه.
 من استقراء الديوان بكامله وجدنا أن القصيدة العمودية لها الغلبة إذ بلغت 34 قصيدة مع ما تقارب منها في الشكل البنائي واختلف في قوافي المقاطع، وهذه القصائد الـ  (34) تسير وفق قاعدة الشعر النبطي إذ تشتمل القصيدة على قافتين مختلفتين ينتهي بها كل شطر ويلتزم بها الشاعر التزاما تاما، وباقي القصائد جاءت على التفعيلة أو ما شابهها من القصائد ذات التنويع في القوافي, والتوحيد في التفاعيل أحيانا ، وإذا أعملنا النظر في القصائد العمودية النبطية نجد الشاعر يحاول أن يتقمص روح البداوة التي اتخذت من هذا الشعر نمطا معروفا، لكن نظرا لثقافة الشاعر المعاصر واختلاف بيئته الحضرية الريفية ، واختلاف عوالمه الإبداعية، اتسع معجمه واختلفت مفرداته ولغته و صوره ورؤيته عن أصول القصيد النبطي، فإذا عملنا قراءة مقارنة بين القصيدتين النبطية العمودية، والقصيدة العامية  التفعيلية لدى المعشني سنجد أن أبرز الفروق بينهما تتمثل في الجوانب التالية:
 أولا البناء: من المعروف سلفا أن بنائية القصيدة العمودية تقوم على توازن الشطرين ايقاعيا وتفعيليا، فالوحدات الايقاعية واحدة في كلا الشطرين وكل شطر يحتفظ بقافية يلتزم بها الشاعر طول بنائية النص، أما بناء النص التفعيلي فهو قائم على اختلاف عدد الوحدات التفعيلية في الاشطر، وعدم الالتزام بوحدة القوافي، ورغم قلة النصوص التفعيلية في الديوان إلا أن توجه الشاعر إليها يبدو قويا، وهنا نستطيع أن نقول بأن الشاعر قد ضاق بالقيود الصارمة التي تفرضها القصيدة النبطية الكلاسيكية، باحثا  التعبير عن ذاته في حرية تليق بشعريته ،لذا توجه توجها مغايرا عما اعتاد عليه.
 ثانيا اللغة: في القصيدة العمودية تهتم اللغة بالبلاغة الفخمة والتراكيب البيانية الناصعة التي تستقطب اعجاب المستمع وتجعل التجاوب بين الشاعر المنبري وبين الجمهور المعتاد على التلقي السمعي مدهشا لتنتزع منه كلمات الاستحسان، وهي قصيدة ذات جرس موسيقي عال ينبع من التزام الوزن المنتظم الايقاع تماما ومن رنين القافيتن الملتزمتين طول القصيدة.
أما في قصيدة التفعيلة فنجد لدى الشاعر تلك اللغة البسيطة الرقراقة المنسابة بدون تشنج وبدون ضجيج ايقاعي  ، هي لغة ذاتية هامسة ناعمة هادئة تعبر عن ما بداخل الشاعر من أوجاع دفينة وأنين خافت الصوت ، يتضح في التراكيب البسيطة القصيرة ، وفي القافية المتنوعة المتغيرة التي يغيب عنها الضجيج والجرس العالي للموسيقى ، وفي المفردات والتراكيب الهامسة.    
من قصيدة  هذا جرحي سنلاحظ التمرد على بنائية النص النبطي  واستبدالها بقصيدة تفعيلية سردية، ويتضح بالنص تخلص الشاعر من القوافي الصارمة والميل إلى لغة منخفضة النبر ايقاعا ومفردات وأساليب.
(هذا جرحي/ ذاكرة عمر المدينة/ سوالف الليل وانينه/ ما نسى شيء من قديمه/ الأسامي ... والشوارع/ والشبابيك الحزينه/ وليلة الفرقا ووعدك / وعدك الذابح سجينة) ص 39 وهذه السمات الفنية سنجدها في كل نصوص التفعيلة انظر نص فيني حنين (فيني حنين/ وشعور كله عاطفه/ مدري لمين/ هذي المشاعر نازفه/ بس المهم والمختصر في السالفة/ هذا المساء كلي على بعضي حنين )ص 101)
أمَّا على مستوى الصورة فنجد صور القصائد العمودية جزئية بيانية في إطار التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وهي صور جميلة وجديدة تحمل خصوصية الشاعر المعشني، لكنها تنتهي بانتهاء البيت الشعري عادة، حيث الحرص على اقتناص صورة عجيبة مدهشة لتمثل وحدة البيت كما هو في الموروث العربي، وعادة ما تكون هذه الصور ذات التقاطات خارجية من محيط الشاعر مثل: (لوعيوني سيل من شوق ونظر... خلي قلبك أرض وتركني أسيل)، وقوله: (من جمَّل الشمس غير الظل وعيونك/ من هذب الريح غير إحساسك الراقي؟/ لو قلت لك روح صحي الليل بجفونك/ لا تلتفت لي عجب أو باكشف الباقي).
هذه صور راقية وجميلة وسنلاحظ أن جل عناصرها خارجية ملتقطة من الطبيعة حوله: (الشمس/ عيونك، الريح/ جفونك/ أرض/ سيل)؛ هي صور جميلة لالتقاطات خارجية، لاتنم عن معاناة الشاعر النفسية، بل إن الشاعر لم يوظفها للتعبير عن مكنوناته ووقف بها عند جمالية الامتاع الفني للتشبيه والاستعارة).
أما الصورة في قصيدة التفعيلة فهي صورة نفسية تلتقط أغلب عناصرها من (جُوانيَّة ) الشاعر لذا هي صور معبرة عن حالة الذات الشاعرة المتوهجة بما تحمله من تناقضات وشجن وألم واغتراب وأحزان وفقد، وهي عكس الصورة السابقة، فهي صورة ممتدة لاتقف عند بيت واحد أو اثنين، فقد تمتد امتدادا طوليا على مدار عدة أشطر، وقد تمتد لتتحول لصورة كلية تستقطب القصيدة منذ أول شطر فيها إلى نهايتها، وطبعا تبرز هنا ظاهرة (التدوير) بشكل واضح حيث تطغى السردية أحيانا  فنجد الحوار والشخصيات والمكان والزمان والحدث عناصر متكاملة للقص كما في قصيدة (عرس المطر) 45
(إيه أذكر قبل عام .../ جيت في ليلة شتا/ شاعر عاشق حزين/ ممتلي جوفي غرام/ وبين همسي والسكون/ وتمتة برد الشجون/ صاح في وجهي غريب/ ايه ... ايه ؟ وين ي العاشق تهيم؟ برد ... والشارع خلي/ والليالي ماتحفز للسهر والانعتاق).  هذه حالة شعورية جسدها الشاعر في صورة ممتدة جميلة، وهي أقرب للقص بكل عناصره، ومثل هذه  القصيدة نقرأ (ليلة مطر) ( زحمه وناس/ ماهم بناس/ تراب وأحجار وسما/ بس مو وطن/ غربه وأنا بداري غريب) ص52
كم هو واضح تجسيد الفقد واغتراب الذات وهي بين أهليها ومحبيها، وهو في هذا يجسد فلسفة أبي حيان التوحيدي في كتابه الإشارات الإلهية (هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه، الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا)؛ وهذا هو أقسى أنواع الاغتراب لأنه اغتراب الوعي وهو سبب مباشر من أسباب الفقد. ومثل القصيدة السابقة، نقرأ قصيدة نرجسية ص48 ،وقصيدة شباك المنافي ص 65 ، وفي مثل هذه القصائد نحصل على صورة متكاملة لما يعتمل في نفس الشاعر، وهي صورة بشكل عام بعيدة عن  البيان  بتفرعاته المختلفة، أنظر قصيدة حبيبتي ( هذي البيوت/ كانت أمان/ كانت تشع أنوارها/ ياطيب ظل أسوارها/ وانا الوله والاشتياق/ اللي زعج جدرانها) ص 88، وهنا الصورة لم تكتمل من الشطر الأول ولا الثالث بل امتدت لنهاية المقطع ليمنحنا الشاعر هذه الالتقاطة الجميلة الدالة المحملة بالشجن.
 وكذلك قصيدة (عرس المطر) حيث رسم لنا الشاعر صورة كلية يتحرر فيها الشاعر من كل قيد ويتدفق في رسم المشهد حتى تكتمل الصورة باكتمال القصيدة. والجميل أن هذا العرس يعزف على مستويين متضادين، ليربط المستوى الاول الخارجي (عرس الطبيعة) بالمستوى الثاني النفسي كأن حزن النفس مضاد لعرس الطبيعة وفرحها.

تعليق عبر الفيس بوك