نزوى ملهمة الشعراء.. أصداء الرحلة وجماليات المكان

ناصر أبو عون
في الطريق إلى نزوى انقشعت غيوم الأفق التي بسطت زرقتها في سماء مسقط العامرة، وكلمات جدّت الحافلة في المسير تساقطت الغيوم على أسنة رماح الشمس النزوية، وانقشعت عن عيني غشاوة العواصم الأسمنتية، و(مدن الملح)، والأبراج الزجاجية، والحدائق الصناعية المغروسة في الفيافي، والمدهونة بالأصباغ المتنافرة تغطي وجهها بركة آسنة من الطحالب الملونة تفننت في تخليقها المساحيق الصناعية، وصارت ترطن بأكاذيب الحداثة فتساقط الكلمات من بين أسنانها باردةً، ومجردةً من روحها، وملوثةً بأدران الانسياق الأعمى في ركاب الكارهين، والمتلونين، والطامحين، وبَدَتْ في معمارها صورةً مشوّهةً من المدن الغربية المقتلعة من جذورها لتنتصب في صحرائنا العربية؛ التي مازالت تستنكر انسلاخ أبنائها من بداوتهم، وتلّبسهم بجنيّ المدن، وأقانيم الحداثة المنحرفة عن مسارها العقلاني وانحراف بوصلتهم باتجاه كل غرائزي واستغراقهم في الشكلانية وإسقاطهم المضامين والأفكار الكبرى من أجندتهم فصاروا مسوخًا تستروح العطر من الورود البلاستيكية.
في الطريق إلى نزوى تبدَّى لنا جمال الطوبوغرافيا التي تفنن في صنعها ربّ العالمين فتأخذ العين سهولها المنبسطة كراحة يد تنبسط للسلام وبالسلام، وتطفوا الواحات الخضراء وسط الفيافي المترامية الطراف مثل قوارب متباعدة تسبح في بحر من الرمال، وتنقش ثوبها الأصفر الذهبي حدائق غناء ترويها الأفلاج والآبار المنسابة من الأودية والشعاب.
على مدخل البوابة الرئيسة، وقبل الولوج إلى ميدانها، وأسواقها، وحاراتها المدهونة بدهن التاريخ اخترمت خيالي صور لأبطال الفتوحات الإسلامية التي شرّقَت، وغرّبت، وجابت الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ ماذا يحدث لو كانوا بيننا الآن؟ حتمًا سيحملون نزوى وأبناءها، ورجال عمان على أكتافهم، وستجري دموعهم أنهارا على أحفادهم الذين ضيَّعوا ممالكهم.. لولا نزوى لتآكل الإسلام وانزوى، وضاع العلم وانتهى.
قبيل صلاة الجمعة قادنا الشيخ المؤرخ ناصر بن منصور الفارسي إلى (قلب العقر) حيث يقع مسجد الشواذنة وهو من أعمدة المدرسة الفكرية التي اتكأت عليها (نزوى بيضة الإسلام) في تفريخ عددا من أئمة ومشايخ العلم والعبّاد والفقهاء، ونشروا من بين جدرانه أشعة علوم العقيدة وأصول الفقه والحديث واللغة، يتقدّمهم العلامة أبو عبد الله عثمان الأصم، وأبو علي الحسن بن سعيد، وأبو زكريا يحيى بن سعيد، وأبو علي بن أحمد بن محمد بن عثمان العقري النزوي، الذي أقام مدرسة الجليلين.. لقد المسجد تعبيريا مجازيًا عن الشخصية العمانية ببساطتها، وانخلاعها من زخرف الدنيا وبهرجتها، ونقوشها الفاقعة.. كان المسجد على نمط مسجد النبي حيث اتسم ببساطة البناء، والتكوين، وبلا منارات عالية، وتتميز بامتداد في سقوفها للرقي منه إلى سطح المسجد متصلة بالداخل بسلم يوصل إليه.
عندما حطّت الحافلة رحالها في الميدان وجدنا الفاضل عبد الله العبري رئيس نادي نزوى في استقبالنا وكانت فرقة الفنون الشعبية النزوية تدندن أغانيها، وترقص رزحتها بين الشيوخ والأعيان، وجوقة من السائحين الأجانب يوثقّون اللحظة، وتنتهب فلاشات كاميراتهم الضحكة، والحفاوة حتى صار المحفل مهرجان عناق عماني لا ينتهي.
سار الركب بنا إلى (سوق السلاح)، و(قلعة نزوى العتيقة)، وحصونها المنتصبة كرمح شامخ.. كانت الطرقات تعبق برائحة البخور، والممشى يعانق الأقدام، والتاريخ يمشي على قدمين، تطلع فينا (نزوى) من جديد كطائر الفينيق تتجدد سماوتها، وتحكي حيطانها قصة الإسلام الذي يتآكل مريدوه من شتى الأصقاع إلا في نزوى؛ تلك البيضة، والقلعة الصامدة في وجه الغزاة تدحر الأفكار الغريبة، وتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد لتبقى الشخصية النزوية حاضرةً تحاور عقول العلماء بأفكارها التي تلتزم التجديد في إطار الواقع، وتلهم قريحة الفقهاء بأصالتها التي ترتجل العلم في مضمار العلم النافع، وتمطر فرحها، وعلومها على الأرض البوار فتخضرّ فيافي النفوس، وتتسامق أنوارها فتعلو الرؤوس.
كانت الجِرَارُ والخزفيات المعلّقة على أبواب الخانات حُبلى بتاريخ الأجداد، والخناجر الأثرية تنزّ من نصالها الانتصارات والأمجاد.. سألت سائحة أجنبية جثت على ركبتيها تقلّب تحفًا في الرفوف السفلى لأحد الخانات.. هل يمكنني مساعدتك؟.. عن أيّ شيء تبحثين؟ قالت أبحث عن تاريخٍ لمّ تلوثه الحداثةُ بجراثيمها الصناعية!! وربما أبحثُ عن جذوري التي أفقدتني الحداثةُ أصولها.. رغما ما وصلنا إليه مازلنا نفتقد الأصالة والحضارة الروحية والإنسانية.. لكي ينجو العالم من بربريته، وعنصريته، وغباوته يجدر بنا أن نلتقي نحن وأنتم في منطقة وسطى تمنحونا أصالتكم وروحانيتكم وإنسانيتكم ونمنحكم أسرار تقدمنا.. من غير هذا سينقرض الإنسان، وتعود الأرض خرابًا كما كانت في بدايتها.
مع خروجنا من أسواق نزوى كبّر مؤذن (مسجد القلعة) للصلاة ارتقى الإمام المنبر مرتديا (البشت العماني المُذَهَّب) من أطرافه ممسكًا بعصاه وقام متكأً عليها.. هادئًا تنساب كلماته عربيةً رقراقةً عذبةً صافيةً مثل دفقات المياه الجارية في أفلاج نزوى.. لم يدعُ الرجلُ بالويل والثبور وعظائم الأمور على أعداء الإسلام والمسلمين، ولم يطلب من الله أن يجعل نساءهم لنا سبايا، وأموالهم لفرساننا عطايا، ولم يستعطف السماء ان تنزل البلاء عليهم والرزايا.. على منوال ما كنت أسمعه من خطباء المساجد في سائر العواصم العربية والإسلامية.
كان خطيب الجمعة في (مسجد القلعة) يقدم صورةً بهيّة للشخصية العمانيّة العالمة المتعلّمة  ورغم حداثة الصورة في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلا أنّ سمت الرجل وبلاغته كانت على شاكلة علماء القرن الأول الهجري.. حثّت صورة خطيب الجمعة ذاكرتي على استدعاء النموذج الأكمل، والأبهى، من خزانة التاريخ فتبدّى الخطيب في صعوده المنبر، وبلاغته، وتواضعه وكأنما ارتدى شخصية العلامة جابر بن زيد اليحمد الأزدي الفرقي النزوى أبو الشعثاء.. تصورته يترسمُ خطاه، ويسير على هداه.
كان برنامج الرحلة مشحونًا بالزيارات والفعاليات يمكن قسمتها على يومين أو ثلاث وكأن الشاعر أحمد بن هلال العبري منسق الرحلة أبى إلا أن يحقن نفوسنا بكمية كبرى من الثقافة، والحفاوة مشمولةً بكرمٍ عُماني.. أخذتنا الحافلات إلى قرية (طيمسا)، وقيل لنا أنّ أصل التسمية (طيّ المساء) سرى الركب بنا إلى مزرعة الشيخ الوالد زهران بن محمد الخروصي.. رجل رسم الزمان على وجهه خطوطا من المحبة، ومعارج من الكرم النزويّ، وأفلاجًا من التاريخ.. بسيطا كالماء الجاري بين أحواض مزرعته، هادئًا كالجبال المحيطة ببقعته المباركة.. كان بصحبتنا (ياسين وسعيد) وهما طالبان من (روسيا البيضاء) وقع اختيارهما على دراسة اللغة العربية وأخذها من أفواه أهل عُمان وبسؤالهما عن أسباب اختيار السلطنة لتعلّم اللغة العربية؟ أجاب بعربية تتحسس الخطى: لسان عُمان مازال رطبًا بالألفاظ الأولى.. عربية أهل عمان مازالت تحتفظ ببكارتها، وعنفوانها.. بلاغة العُماني القحّ تقُدّ تراكيبها من جبال الكلمات، وتنفي كل عجمة، وتُصَفِّي كل لفظة، وتجري نوعًا من الفلترة على نبسة أو بنت شفة.
في المجلس الكبير جلس عن يميني الشاعران الأمجدان (جمال الرواحي النزوي)، و(سمير عبد الصمد الأردني)، وعن يساري الشاعران الحداثويان (أحمد بن هلال العبري العماني)، و(عبد الرزاق الربيعي العراقي) .. كنتُ بين (شقيّ رحى الشعر العربي) تأسرني البلاغة بزخرفها عن يميني، وتغويني الحداثة بطلاوتها عن يساري.. مشمولا بمداعبات الآبن الأكبر للشاعر القاضي أبي سرور.. كان الولد حقًا سرُّ أبيه في قصصه التاريخي، ومناكفاته الأدبية، ومكاشفاته الشعرية.. ولكنه لن يكون في قامته الشعرية لأن (من ذاق عرف).
انتهى بنا المجلس على عشاء باكر في مزرعة الشيخ المؤرخ ناصر بن منصور الفارسي الوالي الأسبق لولاية نزوى.. اتسع المجلس ليعجّ بالشعراء من كل حدبٍ وصوب.. من داخل عمان ومن خارجها، وصدح الشعراء كطيور في البريّة وكانت أصداء الجمل الشعرية تذهب إلى أعماق الجبال وترتد في الآذان، وتتعالى الأناشيد على صوت طبول فرقة نزوى للفنون الشعبية.. وفي الختام ازدان المجلس بأطباق الحلوى.. هديةً من مصنع السيفي للحلوى العمانية.

تعليق عبر الفيس بوك