علي المعشني
يُصرُّ الغربُ الاستعماريُّ -عبر تاريخه- وعلى رأسه أمريكا اليوم على تمرير مخططات تمزيق الأوطان والعبث بالجغرافيا؛ لتحقيق أكبر قدر من نظريته الشيطانية المسمَّاة "الفوضى الخلاقة"، لتبقى تلك الأوطان أزمات دائمة وجروحا مفتوحة وملفات سياسية عالقة وشائكة تنتظر المزيد من الأوراق المتأزمة والمساومات حتى تصل الأمور بتلك الشعوب (المختبرية) إلى حافة الإجهاد التام، وتسلم كل مصائرها للاعب الأمريكي دون سواه، ودون أي اعتراض.
فمن المعروف أنَّ الغرب الاستعماري أجمع بعد حروبه الأوروبية السوداء الأولى والثانية على أهمية أن يختلق الأزمات ويفتعل الحروب خارج جغرافيته ليجني الأرباح والاستقرار والتنمية والتطور وفق نظرية الفيلسوف الألماني نيتشه: "إذا أردت أن تعيش سعيدًا، فعش في قلق دائم"؛ فالقلق الدائم للغرب في حقيقته هو إشعال الشعوب وإشغالها في أزمات لا تنتهي، وأن يتفنن الغرب بإدارتها ورعايتها حتى تصل إلى السقف المرسوم لها من قبله.
ومن ضمن أحلام الغرب اليوم التي يروج لها لخلق بنية نفسية وفكرية حاضنة ولتهيئة الرأي العام الأقليمي والدولي لتقبل إسقاط الحلم على أرض الواقع، هو إقامة الدولة الكردية المستقلة شمال العراق؛ أي استهلال مُخططه التشطيري في المنطقة بخاصرة هشة ككردستان العراق؛ تمهيدًا لتحقيق أحلام أخرى قادمة.
فالغرب يعتقدُ اليوم أنَّ العراق في وضع مثالي للتشطير نظرًا لغياب الدولة الحقيقية ورجالها من المشهد، ويعتقد كذلك أنَّ أكراد العراق في وضع مثالي يسمح لهم بتدشين تجربة التشطير دون ضجيج أو آثار جانبية، هكذا يتصور الغرب.
لسنوات طويلة خلتْ والغرب يُمرِّر شعار تقسيم العراق إلى جنوب شيعي ووسط سني وشمال كردي، خاصة خلال سنوات الحصار العجاف وقبل احتلال العراق والتنكيل به، ولا يعلم حتى الغرب نفسه إن تقسيم العراق على أساس طائفي في الجنوب والوسط وعرقي في الشمال غير ممكن ولا مقبول في الوجدان الشعبي العراقي، مهما تكالبت الظروف والزعامات على الشعب العراقي، فهو من سيقول كلمته الفصل في النهاية -ومهما طال الزمن- ليقرر أن العراق فوق كل مؤامرة لتشطيره أو تمزيقه أو العبث بمصيره ومكوناته، فشرفاء العراق يعلمون بحكم تاريخهم وزادهم الحضاري أن الغازي والمتآمر وأعوانهم يقاتلون الأرض بطبيعتهم، بينما الوطني والمناضل يستدعون الأرض لتقاتل معهم لهذا ينتصرون في النهاية لامحالة؛ حيث لا يمكن حصر المذهبية في جغرافية بعينها أو طيف اجتماعي بعينه في العراق، ولا يمكن توظيف العرقية الكردية والتي تتكون أغلبها من المكوِّن السني، أو غيرها من العرقيات المكوِّنة للعراق؛ للعبث بجغرافية العراق فقط؛ لأن الأعداء يريدون ذلك.
قصة دولة الأكراد أسطوانة مشروخة منذ عشرات السنين، وتتناغم وتتأرجح صعودًا وهبوطًا عبر تاريخها بحكم المعطيات السياسية الإقليمية والدولية، وهي قصة ليست وليدة اليوم، ولكنها اليوم تمثل طوق نجاة لغرق المشروع الأمريكي في وحل المنطقة العربية، بعد الفشل الذريع في تمرير الربيع على سوريا والصمود الأسطوري لسوريا وحلفائها في وجه المؤامرة وتفتيت حلقاتها.
فبعد فشل الخطة (أ) للمخطط الصهيوأمريكي وأدواته في المنطقة لتفتيت سوريا، تم اللجوء إلى الخطة (ب) والتي تمثلت في إجهاد الدولة السورية واستنزاف مؤسساتها عبر مرتزقة الغرب وأدواته على الأرض السورية والمتمثل فيما يُسمَّى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" واختصارًا بـ"داعش".
فهذه التسمية ليست عبثية؛ فما نتج عنها من عَلَم وعُملة ومناهج وحكومة وموارد وتوسُّع يدلُّ على أنَّ المخطط الشيطاني يرمي إلى تمكين هذه الدولة على الأرض وفرضها كأمر واقع في مرحلة مناسبة من عمر الأزمة وتكليفها بوظيفة حماية مصالح الغرب والنيل من خصوم مشروعه تحت شعار نصرة أهل السنة، وإقامة الجيب "السني" العازل بين العراق وسوريا وإغراق المنطقة في نهج ظلامي ومذابح وثأرات لا تنتهي وقتل مجاني وإلى حد الإنهاك التام.
اليوم.. وبفعل الجيش العربي السوري وحلفائه أصبحتْ ما تسمَّى بـ"دولة الخلافة خرافة"، وفي طي الأوراق الصفراء من التاريخ، وأمام هذه الصدمة الكارثية لم يجد الغرب وأدواته سوى اللهاث خلف الوهم مجددًا وتوظيفه قسرًا في قواعد السياسة والمصالح، فأحيا الحديث عن دولة كردستان العراق والتي أعلنت حكومة الإقليم وبإيعاز من واشنطن إجراء استفتاء شعبي على قيامها في غضون الأيام القليلة المقبلة.
فدولة إقليم كردستان العراق ليست حلمًا اليوم، بل حلم راود الغرب والصهاينة والأكراد معًا ومنذ عهد الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني وفي زمن كانت فيه الحكومة المركزية ببغداد ضعيفة وعاجزة عن فتح جبهات قتالية طويلة مع الأكراد المدعومين صراحة من الشاه وكيان العدو والغرب وبعض العرب في المنطقة، وفي زمن كانت فيه الكلمة الفصل للملا مصطفى البرزاني على أكراد العراق خاصة ونفوذه وتأثيره الممتد إلى الطيف الكردي الأوسع في جغرافيات الجوار.
اليوم.. لم يعُد هناك شاه يحكم إيران ويدعم الأكراد، بل أصبحت هناك حكومة مركزية في خندق العراق، وتعتبر قيام كيان كردي مستقل في المنطقة بمثابة خط أحمر في مؤشرات أمنها القومي. ولم يعد هناك كاريزما جامعة لأكراد العراق كشخصية الملا مصطفى البرزاني، فقد تشظى أكراد العراق كغيرهم من أكراد الجغرافيات الأخرى فأصبح المكون الكردي الواحد ظاهريًّا مكونات لا تُحصى من الانتماءات والولاءات الفكرية والسياسية والنفوذ، والتي استدعت الاحتراب مرارًا بين أبناء المكوِّن الكردي خلال العقود الأخيرة، ولا تزال قنابل موقوته للمستقبل؛ فالطيف الكردي اليوم ما بين يميني ويساري وإخواني ووهابي وصوفي وليبرالي وعلماني..إلخ، وكل طيف بولائه وجناحه المسلح ودعمه وجبايته.
مُجرَّد إعلان الإقليم عن استفتاء للانفصال عن العراق هو بمثابة بالون اختبار وخط رجعة كذلك أمام ردود الافعال المتوقعة وغير المتوقعة كذلك إزاء تلك الخطوة التاريخية الخطيرة. فالأكراد يعلمون قبل غيرهم أنَّ الأمريكان لم يجرؤوا على اتخاذ خطوة كهذه في ظل احتلالهم وسيطرتهم التامة على العراق، ولا أثناء حصارهم للعراق وغياب الدولة المركزية تمامًا في شمال العراق، ويعلمون كذلك أنَّ قيام دولتهم في شمال العراق يعني قيام دولة عدائية لبغداد ولكل الدول المحيطة بهم، والتي تتكون بها تجمعات كردية كإيران وسورية وتركيا؛ وبالتالي فمصير هذه الدولة الحصار والعزلة من دول الجوار حتى لا تتناسل فكرتها وتتكرَّر في جغرافيات أخرى.
ويعلم الأكراد قبل كل ذلك أنَّهم جميعٌ ولكن قلوبهم شتى، وإن قيام كيانهم المستقل يعني إشعال الحرب الأهلية فيما بينهم لتحقيق هوية الدولة وعقيدتها السياسية والدينية والثقافية، ولتقاسم النفوذ والغنائم في الأقليم وحفاظ كل طرف على مكاسبه وتعظيم رصيده المادي والمعنوي، ويعلمون كذلك أنَّ الحلَّ الأمثل لهم هو الحكم الذاتي في إطار دولة مركزية فقط لا غير، وإلا فالبديل فتح أبواب جهنم عليهم.. وبالشكر تدوم النعم!!
----------------------
قبل الختام: كلُّ قول بلا رضاك نفاق...
ليس قول ما لم تقل ياعراق
عبدالرزاق عبدالواحد
Ali95312606@gmail.com