لماذا لا تكون لنا تجاربنا الخاصة؟

 

مازن الغافري

كثيرًا ما نقف مُنبهرين أمام تجارب الآخرين من الغربيين، والمشرقيين في شتى المجالات، وكثيرًا ما نهرع إليهم رافعين القبعات مبدين إعجابنا بنجاحاتهم الجبارة، ومحاولين الاقتباس، أو إعادة تجاربهم في مجتمعاتنا سواء بإعادة صياغتها بما يتناسب مع مواردنا الاقتصادية - وليس الاجتماعية- أم من خلال تبنيها بالكامل، وتكون النتيجة في النهاية عادة الفشل، أو ربما يكون هناك تحسن طفيف في مجال يصاحبه إخفاقات كثيرة في مجالات أخرى.

في الحقيقة من الجيد النظر في تجارب الآخرين، واقتباس ما يلزمنا منها، ويسرنا، ونحتاجه، وكذلك نتعلم المزيد عن الآخرين، وكيف يعيشون، وإلى أي مدى قد وصلت تجاربهم في الحياة، وإلى ما تم تحقيقه من نجاح في كامل المستويات، ولن أتكلم هنا عن الخصوصية الأيدلوجية، ولا الجغرافية، ولا حتى الاجتماعية، والاقتصادية في حين قررنا أن ننقل تجاربهم إلى أوطاننا ومجتمعاتنا، ولكن من الممكن أن أتحدث عن كيف صنع هؤلاء تجاربهم، وكيف آتت أكلها، ومن أين في الأساس جاءوا بهذه التجارب؛ وهل قاموا باستنساخها من دول أخرى أم أنهم اعتمدوا على شيء آخر.

بالنظر إلى كل التجارب الناجحة -و أنا هنا أتحدث عن التعليم- تجد أن كل المبادئ التي تقوم عليها التجارب الناجحة في هذا المجال هي واحدة، لم أجد اختلافا كبيرا فيما بينها؛ وأيضاً لم أجد الاختلاف الكبير بين هذه التجارب، والوضع المعاش في وطننا، ولكن تجد أن هناك مزيجاً لتوليفة نجاح تكاد تستشفه في كل تجربة من تجارب هذه الدول لا تتشابه مع التجربة الأخرى، ومن الممكن أن نطلق عليه هنا "روح التجربة" والذي يكمن في أصالة التجربة، والحاجة التي دعت إليها، والفكر، أو الفلسفة التي قامت عليها. فالتجربة لديهم ليست وليدة حب التغيير، أو أنها مواكبة للموضة الدارجة، وإنما هي حاجة ألحت، ووجب ابتكارها؛ وليس استنساخها، وذلك بما يتناسب مع المجتمع، ورؤيته حيث إنه -أي المجتمع- المستفيد الأول من التجربة، والمعيار الذي يقاس عليه نجاحها من فشلها. فدائماً المقصود من عملية التطوير والتنمية هي راحة المجتمع من خلال إيجاد أسباب الراحة والتنمية وليس هناك مثل التعليم يحقق للفرد، والمجتمع الرفاهية العقلية، والمادية، والنماء من خلال منتجاته الفكرية، والابتكارية الإبداعية. ولكن كيف نصل للمعادلة التي بإمكانها أن تجعل لنا تجربة خاصة خالصة ناجحة غير مبتذلة، وكذلك فعَّالة؟

في السعي للإجابة عن هذا السؤال استعرضت معظم التجارب العالمية الشهيرة في مجال التعليم، وحاولت أن أجد الصيغة التي جعلت من تجاربهم تجاربا ناجحة بشكل أو آخر. الحقيقة ما لمسته من جل هذه التجارب أنها دائماً مرتبطة بمنعطفات (حاجة) كانت هي نقطة التحول لهذه الدول، ففي اليابان مثلا -و هي تعتبر من أكثر الدول تقدما في مجال التعليم- نجد أنها بعد أحداث الحرب العالمية، وخروجها من الحرب منهزمة، ومنهكة اقتصاديا، وتتلقى المساعدات من الدول الأخرى، لتكون هذه الأحداث نقطة تحول لها، وبالنظر لحاجتها في أن يكون لها اقتصاد؛ فكان أن وضعت نظاما تعليميا ناجحا من خلاله تصل لما تُريد، فكان إيمانهم بأن العلم طوق النجاة؛ هو سبب نجاح نظامهم. أما التجربة الأمريكية؛ فقد مرت بمنعطفين كان أولهما عام 1957، بعد إطلاق القمر الصناعي الروسي، والتي أكدت للأمريكيين بضرورة صياغة تجربة جديدة، وعدم جدوى نظامهم التعليمي الحالي ووجوب رفع مستواه التطبيقي. أما المنعطف الآخر، فهو بعد فقدان التنافس الاقتصادي العالمي بسبب تدني أداء النظام التعليمي مقارنة بالدول الصناعية، وذلك بعد صدور تقرير "أمة في خطر" مما جعلهم يعيدون النظر في مناهجهم التعليمية لا سيما في المرحلة الثانوية، وتطويعها بما يتناسب مع حاجتهم. فالشاهد في كل ما ذكرت من أمثلة؛ أن تطوير التعليم لم يأت عن محاولة تطوير التعليم بصفة خاصة وإنما الحاجة التي دعت لذلك التطوير، ومن ثم ابتكار التجربة المناسبة والنظام المناسب له. لذلك في الحقيقة ما يجب أن يلتفت إليه المهتم بهذا المجال ليس التعليم كنظام؛ وإنما يجب الإمعان، والنظر بعمق أكبر، وذلك بالنفاد إلى المجتمع وتلمس حاجاته ومن ثم اللجوء إلى تركيبة خاصة به، كما لا بد من إشراك المجتمع بمختلف توجهاته وأطيافه وقطاعاته في عملية التخطيط للتعليم وصياغة مبادئه وسياسته ومناهجه وأهدافه، ذلك أنَّ التعليم تجربة اجتماعية لا يمكن إغفال جزء من المجتمع دون أن تشمله التجربة وإلا ما كنت التجربة دقيقة، وصحيحة. ونهاية القول إن كل مجتمع هو أعلم بحاجاته، كما أنه أعلم بمقدراته وطبيعة الظروف المحيطة به كما أن له خصوصيته الثقافية والأيدلوجية، فلا بد له من ابتكار تجربة نجاحه الخاصة بالطريقة التي يراها مناسبة له.

تعليق عبر الفيس بوك