"تمكين" من دائرة التمويل إلى فضاء المشاركة

 

عبيدلي العبيدلي

في حلقة نقاشية ضيقة جمعت مجموعتين إحداهما تمثل نخبة من رجال الأعمال البحرينيين، والأخرى تمثلها كوكبة من قيادات مشروع إصلاح سوق العمل "تمكين". و"تمكين" هو مبادرة جريئة، كان الهدف الرئيس الكامن وراء إطلاقها، وكما يفصح عن ذلك اسمها هو القيام بإصلاح نوعي في تركيبة وبنية سوق العمل البحرينية. ومن الحالة الجنينية المحصورة في سوق العمل نمت عضلات وأعضاء "تمكين"، حتى تحول اليوم إلى أحد أعمدة وركائز تطوير القطاع الخاص البحريني، وتنميته وفق خطوات، حتى وإن بدت ضيقة وبطيئة، لكنها راسخة ويحمل صاحبها "تمكين" رؤية مستقبلية واعدة.

في تلك الحلقة، انصب النقاش حول أحد المشروعات المشتركة التي أخذ "تمكين" على عاتقه ليس مهمة إنجاحها، من خلال التعاون مع الجهة ذات العلاقة في القطاع الخاص، لإزالة العقبات التي تقف في طريقها فحسب، بل، وهذا هو الأهم، وضع صمامات أمان تضمن تطور المشروع والارتقاء بأدائه، وتحول دون تسرب "فيروسات" السكون التي تجرده من عوامل إسهاماته الرائدة في الاقتصاد البحريني.

في خضم النقاش، انبرى أحد أعضاء فريق "تمكين" في انفعال "حميد"، منوها، " هناك نقطة لا بد لنا من التأكيد عليها اليوم، وهي التحول النوعي في سياسات "تمكين" الحالية ، والتي ستسود سلوكه المستقبلي، وهي الانتقال من دائرة التمويل إلى فضاء المشاركة"، مضيفا ومؤكدا، "ليس في ذلك إجحاف بإنجازات المرحلة السابقة، وإنما استجابة للتطورات التي عرفها طرفا العلاقة: (تمكين) ومن كانوا يعرفون باسم (المستفيدين) الذين نعمل جاهدين إلى نقلهم إلى فضاء الشركاء".

ساد جو الاجتماع صمت، لم يكن بطبيعة الحال صمت القبور، وإنما تأمل المشاركين، فبقدر ما تشيع مثل هذه النقلة الأمل في نفوس من سينخرطون في مشروعات "المشاركة" هذه، بقدر ما ستثير مجموعة من التحديات في وجه طرفي العلاقة، يمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

·        مدى القدرة على الاستفادة القصوى من تجارب المرحلة السابقة، وتحويلها إلى ذخيرة حية ديناميكية، تفيد في تحاشي تكرار الأخطاء، وتفتح الأذهان أمام تجارب مستقبلية ناجحة. وهنا لا بد من كلمة إنصاف تقال بحق مسيرة "تمكين"، الذي ولد جنينا طري العود في بيئة سوق العمل البحرينية المعقدة، ونجح من قاموا على إدارة "تمكين" في المحافظة على ذلك الجنين ليس من خلال تغليفه بورق من السلوفان، حفاظا عليه، بل شجعوه على خوض غمار المغامرة المدروسة، التي كانت نتيجتها المنطقية وصول "تمكين"، إلى الحالة الصحية التي هو عليها اليوم. فالثمرة التي تجنى اليوم، هي حصيلة تراكمات تجربة ما يربو على عقد من الزمان، عاشها من أدار "تمكين"، بحلوها ومرها، وصعدها وهبوطها. 

·        طبيعة وطريقة عمل الآليات والضوابط التي سيتبناها "تمكين" لضمان التحول "الانسيابي المرن" الذي ينقله وينقل المستفيدين من مشاريعه من خانة "الانتفاع الضيقة" إلى فضاء "المشاركة الرحب". فهذه النقلة ليست مجرد قرار بل هي سياسات تطبق وممارسات ينفذها طرفا العلاقة، ولا تقع مسؤوليتها على كاهل "تمكين" وحده. هنا يتطلب الأمر إزالة ترسبات عميقة، لا يتحمل "تمكين" وحده مهمة القيام بها.

·        التحول النوعي الإيجابي المطلوب، الذي يضمن هذا الانتقال السلس، يتطلب تحولا نوعيا آخر في ذهنية المستفيدين أيضا، كي ينتقلوا هم من خانة "المنتفع" إلى خانة "الشريك"، الذي بات مطالبا هو الآخر قلب سحنته، وتغيير نمط تفكيره، واجراء تبديل نوعي في سلوكه، من خلال المشروعات التي يتقدم بها، والآفاق التي يطمح إلى الوصول لها. فالسير في طريق التحول ذي اتجاهين يتقاطعان عند محطة وصول واحدة.

معالجة هذه التحديات وتجاوزها يضع طرفا العلاقة: "تمكين" و"الشريك"، أمام خيارات تحولات استراتيجية يمكن سرد الأبرز بينها في النقاط التالية:

1.       الانتقال من مجرد "مساعدة" خلايا القطاع مثل الشركات والمؤسسات النشطة فيه، إلى تطوير نسيج القطاع المعني وحمايته. وهذا يقتضي أن تكرس خطط "تمكين" جهودها للارتقاء بأداء القطاع وليس أعضائه، من خلال تشييد بيئة سليمة تقوم على ركائز قوية تضمن تطوير القطاع كي يتمكن من التقاط الخلايا النشطة المعافاة فيه فيطورها ويلتفت نحو تلك الخاملة فيسارع إلى علاجها. هذه النقلة التي لا تهمل الخلايا المبعثرة بطبيعتها، لكن تركز على نسيج القطاع الحاضن لتلك الخلايا، تحتاج إلى بناء معادلة دقيقة متوازنة تفسح في المجال إجراء تغييرات نوعية في ثوابتها قبل متغيراتها.

2.       الالتفات الجريء نحو منظمات المجتمع المدني التي تمثل كل قطاع من قطاعات الاقتصاد، ومطالبتها، وهنا تتحقق النقلة النوعية من مجرد الاستفادة إلى التشاركية الفعلية، التي تضمن بناء العلاقة السليمة التي تكسر أسر دائرة التمويل الضيقة قبل الانتقال إلى فضاء المشاركة الرحب. بدورها تصبح تلك المنظمات التي تمثل القطاع، مطالبة قبل "تمكين" أن تكون جاهزة بخططها التي تعالج مشكلات القطاع، وتحدد أطر تطويره.

3.       الزواج الكاثوليكي الرباعي - وليس الثنائي- الأبعاد، بين شركات القطاع الخاص ومنظمات مجتمعها المدني من جهة، و"تمكين"، وإدارت القطاع العام وتوابعها من جهة ثانية. مثل هذا الزواج الذي لا ينبغي التفكير في فك أواصره ستكون نتائجه استراتيجية وإيجابية، ليست محصورة في اصلاح سوق العمل فحسب، بل في إعادة هندسة آليات وأداء الاقتصاد البحريني على نحو شامل ومتكامل، يصب في نهاية المطاف في الشق الاقتصادي من المشروع الإصلاحي، الذي مهما بلغت نجاحات جناحه السياسي لكنه في أمس الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى جناح اقتصادي قوي يمكنه من التحليق عاليا في أجواء النسور، ولا يكتفي بالطيران فيما هو دون ذلك.

مهمات شاقة وتحديات معقدة، لكنها تتراجع أمام قيادة جريئة من مستوى تلك التي تدير "تمكين"، ومنظمات مجتمع مدني قوي مثل التي سارعت لبناء علاقة تشاركية مع "تمكين"، وقطاع خاص ديناميكي يرنو بآفاقه نحو مستقبل بحريني واعد يقوم على اقتصاد راسخ، وبنية سياسية واعدة، ومواطن بحريني متألق. ومؤسسة "تمكينية" ديناميكية متفاعلة، وفوق هذا وذاك قيادة سياسية طموحة.