نحو قيم أكثر انفتاحاً (10)

أصالةُ البصيرةِ بديلاً عن سطحية النظر

 

 

د. صالح الفهدي

مالك بن نبي فيلسوف ومُفكر عربي يعدّه البعض "ابن خلدون الثاني" لما له من قيمة علمية والفكرية، ومن بين هؤلاء شهادة قدّمها الباحث بدران مسعود بن لحسن جاء فيها، من خلال قراءتي لكتب مالك بن نبي، وتعاملي مع فكره، وجدتُ أنّه يُقدّم أطروحة ومشروعا لتشخيص أزمة التخلُّف الحضاري في العالم الإسلامي، ويُقدّم منظورًا أكثر اقتداراً على مُعالجة الأزمة واقتراح حلول للنهضة والبعث الحضاري للوطن وللأمة، وهو في نظري ابن خلدون الثاني".

رحل هذا المفكر العظيم لكنّ أعماله لم ترحل معه لأنها لا زالت ذات قيمة فكرية لنهضة هذه الأمة التي لم تلتفت إليها، ولم تتمعن فيها وفي أمثالها من الأفكار النهضوية العظيمة الأخرى.. في مقابل ذلك، وكمفارقةٍ حادة وصارخة، فإنَّ بيت هذا المفكر والفيلسوف العظيم يقع في شارعٍ يسمّى "شارع الرسول" بمدينة تبسة بالجزائر، وهو شارع يعجُّ بالحانات حتى أنه طالب السلطات بتغييره قائلاً "أغلقوا الحانات أو غيّروا اسم الشارع من شارع الرسول إلى شارع باخوس"..! ثم تحوّل بيته بعد وفاته إلى مخمرةٍ وبيتٍ للفاحشة..!

ولم يسلم كذلك بيت المسرحي العربي الكبير سعد الله ونّوس بعد وفاته من إهمالٍ وقلّة اكتراثٍ بما فيه من مقتنيات وإرث فكري كبير فقد كانت تتسرب مياه الصرف الصحي إلى مكتبته العظيمة من الشقة العلوية التي كانت تُجرى صيانتها، فما كان من زوجته وابنته الوحيدة إلاّ التبرّع بمكتبته القيّمة إلى الجامعة الأمريكية ببيروت مبررين ذلك في بيان القول إلى أنهم حاولوا جاهدين التبرع بمكتبته إلى جميع المؤسسات الثقافية السورية إلا أن رغبتهما قوبلت بالرفض..!! هذا الموقف دفعني لكتابة نصٍّ مسرحي أسميته "الحيطان"، وقبله نصّ آخر عنونته "سهرة مع سعد الله ونّوس" صدرا في مؤلفين منفصلين.

إن الأمم التي لا تقدّر مفكريها وعلمائها وباحثيها ومبدعيها لن تعرفَ طريقها نحو الحضارة، ولن تعرفَ معنى الإنتقالِ من حالةِ الفوضى إلى الإنتظام والترقي اللازمين للفاعلية الحضارية. هؤلاءِ هم صفوةُ الأمّةِ، ونخبةِ عقولها التي يعوّل عليها إصلاح شأنها، ودفعها إلى تفعيل قواها نحو الحراك الحضاري.

لكن العالم العربي قد ضل طريقه بسببٍ إهمالِ المفكرين، والعلماءِ، والمبدعين، والنجباء، حتى خلّف هذا الإعراض بل والإقصاء حالة شاذّة لا تعبّر إلاّ عن سطحيّة الفكر، وسذاجة المنهج ..

عدم تقدير الكفاءات العلمية والفكرية والإبداعية خلق مساحة للتشاغب من قبل الأقزام الذين ليس لهم حظُّ من الثقافةِ والعلم فبرزوا على أصعدةٍ مُختلفةٍ لكي يستغلوا ثروات أوطانهم من خلال التزلّفِ والسَّخافة، والشهرةِ الفارغة، لهذا أصبحَ لهم قدرٌ وقيمةٌ في نفوس الشباب العربي الذي أضحى يتابعهم بشغفٍ لأنه يفتقد إلى قاعدة رصينةٍ من المعايير والقيم التي تعينه على تقييم عقلياتهم والنفور منهم وتقدير أولي الفكر والعلم والأدب والإبداع..!!

عدم تقدير العقولِ الرشيدة فكراً وعقلاً وإبداعاً خلق حالةً من التقهقر في مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والفنية وغيرها فقد برزَت عقول أُخرى لا تتمتع بثقلٍ في التفكير، ولا بقدرٍ في العلم، ولا بقيمةٍ في الإبداع لتقودَ المؤسسات فلم تفلح في دفعها إلى النمو نحو مستويات تتسم بالنضجِ والرشد، بل أعادتها إلى الوراءِ لأن "فاقدُ الشيءِ لا يعطيه"..! حتى إن أحدهم يبرّرُ لي في مقولةٍ ساذجةٍ، مشوّهةٍ تعبّر عن خواءِ الفكرِ: أن المجتمع ليس بحاجةٍ إلى القيمِ وإنّما بحاجة إلى "الفرفشة"..!! ولهذا تفعلُ الفرفشة فعلتها الشنيعة في نخر القيم والأعراف الرصينة التي توارثها المجتمع عبر تاريخه المديد..! حتى تصرخ مديرةُ مدرسةٍ أمامي بقولها: سنغرق إن لم تنقذونا ..! وتقصدُ الغرقَ الأخلاقي، وهو أشنعُ وأفظع أنواع الغرق..!

إقصاء المُفكرين والعلماء والمبدعين وتهميشهم أدّى إلى بروز فئة انتهازية مسلوبة الضمير الوطني، تبيع ولاءاتها بحسب ما تقبضُ من أموال، ولا يعنيها في نهاية المطافِ قضيّة أمّةٍ، أو مصير وطنٍ وإنّما تشرئب نحو غاياتها الأنانية غير الخفيّة فإن تحققت لها قفزت من قارب الوطنِ وتركته يغرقُ بمن فيه، وهذا ما هو حادث في كثير من المواقف السياسية العربية التي تتغيّر ولاءاتها بحسب رجحان الكفّةِ، وليس وفق مبادئ قيّمة ناضلت من أجلها، واعتبرتها منهجاً وطنياً يحقق مصلحة الوطنِ العليا..

هذا الموقف السالب الذي يسترخصُ الفكر، ويحطّ من قيمة العلم، حوّل العلم لمجرد تجارة، هفا إليها "زبائنُ" لشراء أوراق تسمّى "شهادات" بثمنٍ بخسٍ لكنها تمنحُ ألقاباً علمية رفيعة مع أنها خاوية الجرابِ والوفاض، فكثر حملة الشهادات الذين أنتجوا بدورهم بطالةً فكرية جديدة وهي من أخزى أنواع البطالات..!! يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "لا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول هو متخفّ في غرور المتعلمين".

لقد أصبحت الفضائيات تعجُّ بمن يسموّن بالعلماء الذين لا يتورعون عن نشر الفتن، وتعميق التخلف وتكريس الفكر الظلامي في عقليات الشباب، ليس لهم بعد نظرٍ حضاري، لهذا فقد اقتصرت عقلياتهم على أمور يعدُّ الحديث فيها ضرباً من الفراغ واللغو إذا ما قورنت بقضايا الأمّة العظيمة التي تحتاج إلى إصلاحها.. وما كان لهؤلاء وغيرهم ممن يطلق عليهم علماءَ أو سياسيين أو مفكرين أن يظهروا لو أتيح المجال لأصحاب الفكر العميق الذين يمتلكون رؤية واضحة لدفع الأمّة من وحل التخلف الذي تغرق فيه مجتمعاتها..!

لذلك فإنه لا يُلامُ شباب الأمّة وفتياتها إن هم هرعوا وراءَ التافهين من مشاهير "السوشل ميديا social media" أو أعجبوا بنجوم "آراب جوت تالنتArab got talent "، فقد ترعرعوا على ثقافةٍ لا تُعلي كعبَ المُفكر، ولا ترفعُ قيمة المبدع، ولا تجلُّ العالم، ولا تكرّم الفنان، ولا تجل قدر الشاعر، ولا تعينُ جهود الباحث، ولا تمهّد طريق الكفاءات والقدرات..!

لا يُلامُ جيلُ الأمّةِ إن اتخذوا من مشاهير هوليوود، ونجوم الغناءِ السخيفِ قدوات لهم لأن القدوات الحقيقة لم يُسلّط عليها الضوءِ، ولم تحظ بالإشهار، ولم تنلِ التقدير، فإن وجدت الطريق للظهور حوربت، وإن قُدِّرَ لها أن تبرعَ في علم أو اكتشافٍ أقصيت ولم يعد لها ذكر..!

لا يُلام جيل الأمّة إن هم شطحوا في الأحلام، وتركوا العمل الحقيقي لأنَّ النماذج الشهيرة والأثيرة لديهم هم أصحابُ السيارات الفاخرة الذين يتباهون بها وبأنواعها ومستويات الترفِ فيها، وهم ممن لا يعرفون معنى العمل، ولا معنى المجد الأصيل لأنهم ولدوا وفي أفواههم ملاعقَ من ذهب..!

كم من أديبٍ، وعالمٍ، ومُفكرٍ، وفنان، ومُبدع، وصاحبُ قدرات عاشَ مُهملاً، غير مكترثٍ به، وعليلاً لا يجدُ الطريق إلى العلاج وهو الذي قضى حياته يصفُ علاجات الأمّة، حتى يرحلَ فقيراً، مُعدماً، بائساً دون ضجيج..! فإن استيقظ الضمير بعد موته فستسمع عن تحويل بيته كمتحفٍ من أجل رفد السياحة، أو تسمية شارعٍ باسمه، أو تكريمٍ بدرع قد ينصبُ شاهداً على قبره..!

آن للأمّة أن تستبدل هذا التوجّه الساذح الخاوي الذي تنظر به نحو أعظم عقولها تميّزاً، وأنقاها فكراً، وأعلاها ذكاءً بفكرٍ يعيدُ لها قيمتها الحقيقية كمحركات للتنمية الحضارية، ودوافع أصيلة للمعرفة في عصرٍ أصبحت القوةُ فيه للمعرفة .. القوةُ للمعرفةِ فقط..

آن للأمّة بعد أن أغرقها الانتهازيون وطلاّب المال، وتجّار المصائر الوطنية في وحلِ التخلّف، ومستنقعات الفوضى أن تُعيد الاعتبارَ لقداسة رسالتها السامية، وسمو منهجها الحضاري الرفيع بترجيح كفّة الكفاءات البشرية المُتميزة من علماء ومفكرين وفنانين ومبدعين وباحثين، فلا سبيل إلى نهضتها بغيرهم، ولا طريق لعزّتها بدونهم.

آن للأمة أن تمكّن أصحاب القدرات من أبنائها لقيادتها، وتجنيبها ضرر التحديات المستقبلية التي لا تكاد تراها بعين البصيرة الحاذقة لأنها غير منشغلة بقضاياها العظيمة في التعليم، والاقتصاد، وبناء البشر، ونشر المعرفة..

إنَّ التغيّر الحقيقي في حياة الأمم والشعوب هو تغير العقليات والقيم نحو الإيجابية لا التغيرات المادية ولا السياسية، تغيّر العقل هو الذي يكفل تغييراً في طرق التفكير، والوعي، والإقلاع من التخلف إلى فضاءات مفتوحةٍ من التميّز والإبداع..