عمان فـي شعــر عبـدالله الطـائي

 

 

أحـمد الفـلاحي

عبدالله الطائي شاعر عاشق لوطنه متيم به يحياه ويغوص في قيعانه وسماواته، وقد امتلأ شعره بتمجيد عُمان والإشادة بها والتغني بجمالها وفضائلها وذكر أعلامها والمفاخرة بتاريخها وحضارتها.. وحب الوطن والتعلق به طبيعة بشرية لا يستطيع الإنسان الفكاك منها ولكن ظروف المرء وأحوال حياته قد تزيد من تأجج عواطفه تجاه وطنه.

ومن الظروف التي ألهبت مشاعر عبدالله الطائي نحو بلاده إبعاده القسري عنها وغربته الطويلة التي دامت لأكثر من عقدين من الزمن عاشها بعيدًا محرومًا من زيارتها ورؤيتها. إضافة إلى الأحوال المؤلمة التي كانت مهيمنة على عمان في تلك الفترة مشتتة أهلها خارجها في معيشة سيئة غير كريمة ولا لائقة.

هذه الظروف هي التي جعلت معظم شعر الشاعر انعكاسا لهموم قومه ومعضلات وطنه ومعها اشتياقه الشديد إليه.

 

يا دهر هل أبقيت سهما لم يصبقلــبا لكــثرة مـا رميـت تفطرا

أذويــت زهـو شبيـبتي فـي بـــدئه وحـكمت أن أحيا معاشا أبترا

جــاوزت حــد الأربعيـن ولم يـزل عيـش التشرد لي نصيبا قدرا

أعمــان قـد جمع الزمان صروفهلكــنـنا فــي الحــب لـن نتغــيرا

أنــت المــــرام لــــمن أراد معـــــزةأنـت المـقام فعـنك لن نتخيرا

ودعتـــــها وعــــلى فــؤادي حسرةلمـا تزل تبدو جحيما مسعرا

 

الوطن عند الطائي يظل هو المرام والمبتغى مهما تراكمت القسوة وتضاعفت ومهما توالت نكبات الدهر ومتاعبه فعمان هي البلسم الشافي لكل الأمراض والرزايا. يتجاوز الشاعر الأربعين من عمره ولا يزال مشردًا في الغربة تتقاذفه المحن من أرض إلى أخرى، ولكن فؤاده يبقى في الوطن مستعرًا بنار التشوق إليه فهو المآل الذي لا خيار آخر عنه ولا مطلب سواه وإن طال الزمن وامتد:

 

أبـدا على عيـني ومـلء فـــــؤادي تبــــدو رؤاها رائحا أو غادي

أحـــيا عـلى الذكـرى فإن فارقتهاأمــــسى منامي مثل شوك قتاد

فــارقــتها جــسما وعشـــت خليلها ذكرا يقض مضاجعي ووسادي

 

عمان ثابتة معه لا تبارحه كل صباحاته ومساءاته، جسمه بعيد عنها ولكن وجدانه يمتلئ بها ومشاعره تفيض منها فهي حاضرة لديه في صحوه وفي أحلام نومه والقصيدة كانت ردًا على تهنئة بالعيد جاءته مدونة في ظهر صورة فوتوغرافية تمثل جبال عمان وبحرها:

 

يــا مــن يعــايـــــدنا بصــــورة دارنــا وببحــــرها وبشــــامـخ الأطــــواد

يـا مــن يهنــــي العــاشقين بصـــورةأنكـــأت جـــرحا مـــا شفي بضماد

ارفـــق بــــقوم أبعـــدوا عن أرضهم والشوق في الدرب الطويل كزاد

العيـــــــد عنـــــدهم لقـــــــاء زانــــهسيـر البــلاد بـــركب أهــل الضاد

تحمي العروبة في الخليج كشأنهافــي عهــد من سبقوا من الأجداد

العيــــد عنـــدهم عمــــــــان بعــــزةوبنـــــوا عمـــان طليـــعة الــــرواد

إذ ذاك تحـــلو يا صـــديق بطــاقةونـــــرى جــــميعا فــرحة الأعياد

 

أتت الشاعر تلك البطاقة المهنئة فنكأت جراحه وهيجت أحزانه الدفينة وحركت لواعج أشواقه فانطلق بخاطب صديقه مرسلها قائلا له إن هذه البطاقة المتزينة بصورة عمان لا تعبر عن حقيقة عمان التي يعرفها فعمان في ضميره تمثل مهد العروبة وأساسها تمضي في موكب العرب وتمد حمايتها للخليج كما هي سيرتها في تاريخها البعيد. تحتضن أهلها، وتهيئ لهم الحياة الهانئة الطيبة ينعمون في أرضها أعزاء سعداء غير مطرودين منها ولا مشردين عنها تمتنع عليهم العودة لرؤيتها ثم ينهي خطابه مؤكدًا ثقته بعودة عمان إلى مسارها المعهود برجوع بنيها المهجرين إليها ليسهموا في تحقيق آمالها وأحلامها بالتطور والرقي ولو تراءى للبعض صعوبة ذلك آنذاك:

 

قل للذين استبعدوا عودا لناسنعود عود البيض للأغماد

 

وفي مقام آخر يصرخ داعيا أبناء عمان لينهضوا بوطنهم وليتضافروا لاجتثاث المشكلات التي اكتنفته ليسرع للأفق المتصور المزهر وللحضارة الحديثة السائدة في كل ربوع العالم عدا عمان في ذلك الوقت:

 

شبــاب عــمان قــد هـــانت عمــانفهـــل فيـــكم فتــى للرزء يجل

وهـــــل نلـــــقى بـــكم أبطال عزمعــــلى وثبــــاتـــهم ينـــزاح ذل

أيــا أبنــــــاءهـا نعــــمت جــــــدودلــكم شادت فكيف يخيب نسل

أليـــــس يهــــــزكم مـاض مجـــــيدذرى أعــلامه بـالفــــخر تعــلو

 

عند انقشاع ذاك الظلام ينتعش الوطن ويسترد أنفاسه وتتدفق مساعيه لإعادة ماضيه التليد وبناء مستقبله المبهج الموصل للعزة والمجد والرخاء اللامتناهي ملتحما بأشقائه العرب ومندمجا فيهم مشاركاً في دفع الأضرار وطلب النافع المفيد من حضارة العصر. وهو يركز على العرب والتواصل معهم والانضمام لمسيرتهم لأن عمان في ذلك الزمن محجوزة في قطيعة تامة مع العرب تأبى الاقتراب منهم والالتفات إليهم فهو يحلم بعمان معقلا من معاقل العرب تتقدم حراكهم مدافعة عنهم ومستظلة برايتهم تنجح بنجاحهم وتعتز بتلاحمهم وانتصارهم من أجل التطور والبناء:

 

ليصبــــح معـــقلا للعـــرب فـــيهسيـــوف فـــي ملمــــتهــا تســل

يظــــلل أرضــــه حـــكم رشيــــدوفـــي أرجــــائه يلـــتام شـمل

 

وعندما يصله نبأ وفاة أمه وهو بعيد عنها يتضاعف ألمه وتهتز نفسه حتى ليكاد يشعر بالانهيار متمنيا الوصول إلى مسقط ولو خلسة لتحية قبرها والاقتراب منه وإن أوصله ذلك للسجن والمخاطر وظل حزنه يكبر ويتنامى لأن أمه رحلت وهو ليس معها وفي حوار صحفي حين عاد للوطن بعد سنوات من وفاتها قال بحرقة «لقد ذقنا الكثير من ألوان العذاب كان أشدها موت والدة المرء دون تمكنه من المشاركة في دفنها» فذهاب والدته مع فراق الوطن يذكي نار الاشتياق ويجدد اللهفة للعودة:

 

اليــوم لانـــت يــــا زمــــان قنـــاتيولكـــــم صــمدت لأعنــف الهـزات

اليـــوم أشعـــر بالمصائب جمعتوالنفس تغرق في دجى الظلمات

اليــــوم أشعـــر أن أصـلي قد هوىفبـقـيـت غصـــنـا ذاوي الـورقــات

أمــي لقـــد شــــد الــــزمان سـهامهفـــأتــاك منــــها قـــاتـل النـــبلات

يـــا أهــل إن جـل المصاب لديكمفـهـــــنا يـــكاد يقــودني لمـــــــمات

عظــم المصــاب وزلزلت أصداءهقـلبـــا يعيـــش العمر في حسرات

 

يصور نفسه كشجرة تهاوت جذورها وتساقطت غصونها مما أدى إلى تضعضع قدرات هذه النفس على مواجهة الملمات القاهرة المتواترة.

كل رغبته في تلك اللحظة أن يجد سبيلا يتسلل من خلاله نحو ضريحها من أجل تخفيف اشتعال أحرانه وتهدئة غليان همومه وبعدها لا يبالي بما سيقع له إذ ستبرد تلك الزيارة لواعج أشجانه:

 

أصبــحت أرجو أن أشاهد قبرهاولـــو أننـــي أرضيـــت كــل عداتي

فأطــوف مسقط لائذا متحـــامياالمــوت يــدفعـــني لمحــو شكاتي

سيان بعـد ممــاتها عيـشي عــــلىنصــب وعـيش السجن والظلمات

 

ولكنه ومع تتابع المصائب وتكاثرها يتأكد يقينه الثابت أن تلك الصعوبات المشتدة تحمل تحت وهجها البشرى بزوالها وذهابها وأن الفرج وراءها آت بأفراحه لا محالة والفجر لابد من شروقه ليزيح الظلام الداجي ولينشر الضياء الوهاج:

 

وإذا الــزمان تكــــاثرت طعــناتهفـالفـجـــر مـن بين الدجـنة آت

فعمان في نظره على مدى مراحل عصورها شهدت الكثير من النوائب والكوارث وجربت من الأيام ما أثقلها وضغط عليها وكدرها ولكنها بالصبر والتجلد والعزم تتجاوز الآلام المثخنة وتخرج من المعاناة سليمة قوية تشرق أضواؤها وتتألق محاسنها واثبة نحو البناء والتجدد واستئناف إشادة الحضارة بهمة وصلابة لا تلين:

 

مساك بالأمس «البوكيرك» بجيشهفــأذقـــته طعــم الردى ألوانا

ولكـــم تـــلاه وكـــم أتـــى مــن قبـــــلهمن رام غزوا فانثنوا خسرانا

وطنـــي ومـــا ضعـــفت لديــك عقيدةأبــــدا بــل ازددنــا بهــا إيمانا

 

ويتوالى الضيق على الشاعر، وهو متشرد يعاني ضنك العيش ووطأة الغربة متنقلا من مكان إلى آخر يمزقه الشوق إلى وطنه المقصي عن مشاهدته وإلى أهله العزيزين عليه الذين يتوق للاقتراب منهم واستماع أحاديثهم:

 

وأكـــــــــــرم بـــــأهــــلي من أســـرةوكم حز في النفس أن يقطعوا

أحــــــــاديثــــــهم حــــــلم مـــربيفعــانقـــــه القــــــلب والمــدمـــع

أحـــــــــب عـــــمان وأهفــــو إلــــــىنجـــــــوم بأجـــــــــوائها تلـــــــمع

وكـــــــم لـــــي معــها أحــــاديث منمعيـــــن المــــنى خـــــلتها تـنــبع

 

ومثله الآلاف من العمانيين المجبرين وقتها على البعد تاركين وراءهم زوجاتهم وأولادهم وأهلهم:

 

فكم من شريد يعاني الخطوبومــــن خـــــلفه زوجـــــة تفجــع

 

يعيشون الظروف المنهكة حالكة السواد سعيًا وراء لقمة يكتسبونها لهم ولأسرهم وابتغاء لفرصة تتيح لهم تدريس أطفالهم وتمنحهم شيئا من الاستقرار في بلدان الخليج التي يتوفر فيها العمل بسبب ظهور النفط فهم يتحركون بدافع الحاجة والاضطرار من قطر إلى الكويت إلى منطقة الأحساء في السعودية مرة هنا ومرة هناك:

 

فقـسم بأحــساء وقسـم بدوحـةوقــسم تبـــناه الكـــويت فأكرما

مـواطــن للعــرب الكــرام رأت بناضحايا لطغيان فكانت لنا حمى

 

وتشتبك المعاناة الذاتية لدى الشاعر بالمعاناة العامة التي يلاحظها تطوق قومه وتخيم عليهم وترمي بهم في متاهات معتمة بالغة المرارة والقلق غير أنه يظل ممسكا بتفاؤله وسط تعاظم الأحداث وتزايد الأوجاع فالشعب العماني منتهاه استعادة حيويته ليقهر الصعاب ويحقق الطموح الأجمل لوطنه مجددا أمجاده العريقة المتوارثة عبر الحقب والعصور:

 

شعب كريم المحتد

يشيد في حاضره

مجدا عظيما لغد

يسير في نهضته

سيرا سديد المقصد

ويجمع الأيدي على حب عمان الأبدي

 

والشاعر مؤمن بعمان الواحدة المتلاحمة التي لا تقبل التجزئة والانقسام فهي منذ الأزل هكذا كتلة متماسكة تأبى التفتت والتشرذم والتأثر بالمشقات والبلاء تبهظها فواجع الزمن وتزعجها نوازله وتضيق بخطوبه دون أن تسقط أو تتفتت بل تبقى محافظة على كيانها نابض ضميرها بالانسجام والتقارب والالتئام:

 

آمنت بالوطن الصغير جميــعهوأبيـــت تجزئة «المزون» إباء

وشهدت ضــمن شهـــادتي شهــادةلعــــمان لا شيــــعا ولا أجـــــزاء

 

إيمانه بعمان الواحدة يقارب إيمانه بربه العظيم ونبيه الكريم فهي عنده امتداد مترابط نسيجه تتلاقى أجزاؤه وتتصل وينجذب بعضها إلى بعض انجذاب الجزء إلى الكل والفرع إلى الأصل لا فرق بين نجودها وسهولها وأطرافها ووسطها:

 

ما إن لمحت معيشة في موطـــنيحتـــى سعيت مبادرا ومشمرا

لا فرق عندي قط في أجــــزائهسهلا جميلا أو نجيدا أوعرا

 

وعندما يشاهد ملامح النهضة والعمران الحديث في دبي تبتهج نفسه ويلتمع فرحه فيقول مخاطبا إياها:

 

وكوني في عمان دليل سير إلى أفــق التقدم والرخاء

 

معتبرًا دخولها العصر الحديث بداية النهضة والرقي لعمان كلها وهو لحظتها في دبي يعاين مباشرة خطوات النهوض فيها حين كان يعمل بمكتب الكويت هناك مطلع ستينات القرن العشرين الميلادي ولعله عند مشاهدته بواكير ذلك الإعمار بما فيه إنشاء المدارس يتذكر دعوة أطلقها قبل ربع قرن من تلك اللحظة شاعر دبي الشهير صديقه أحمد بن سلطان بن سليم الياسي محذرًا من خطورة انعدام التعليم العصري في عمان:

تلك المصيبة لا مصيبـة مثـــلهاتــركت عــمــــان بــذلة وهــــوان

تلك التي ذهبت عمان فـــريسـةفــــي غيــــها رفـــقا بشعـب عمان

 

داعيا بحماسة لتشييد المدارس في كل المدن والربوع العمانية:

 

شد المدارس في فيح المدائن كيتنجاب عنها ضلالات وخذلان

 

ويوم يسمع الطائي إذاعة الكويت حيث كان يقيم تذيع أسماء بنات الشارقة الناجحات في شهادة الثانوية العامة يرى في هذا النجاح بداية لانتشار التعليم الحديث في عمان وقفزة للدخول إلى الحضارة العصرية والالتحاق بركب المستقبل المرتقب معلنا سروره البالغ بذلك الحدث:

 

قـل يـــا مـــــذيع وردد الأســــمـاءلـك قـــد نسجـنا في الأثيـر ثناء

حـــرك عـــــمان بمــا بنته بناتهافــكيـــــانــها بالحـــزن كـــل ونــــاء

ضـــاقت عـــلى أبنـــائها فتشردواوتــجـــــــزأت أرجـــاؤهـــا أنضـــاء

الســــاحـل الـوثـاب شـع بنـــهضةوغــدا يعـــم النجـــد والبطـــحاء

يـــا أمنـــا الكــبرى عمان تفاءليفالعــــلم ســـوف يبــدد الظــــلماء

 

وشاعرنا لدى فرحته بإكمال البنات الشارقيات لدراستهن يستعيد أشعار صديقه الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة الأسبق الداعية لخروج عمان من عزلتها لتندمج ضمن محيطها العربي مثلما كانت في شتى عصورها:

 

ما عمــان والعــرب إلا كجــــــــسمفيـــه تســـري من الحـياة الدماء

مـا عمـــان والعرب في الشرق إلامـا أحـــاطــت بمـــكة البطـــــحاء

 

وفي مرثية الأستاذ الطائي لصديقه الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي تتبدى أحزانه الشديدة ليس لوفاة صديقه وأستاذه فحسب وإنما أيضا للحالة البائسة التي كان الوطن يعيشها:

 

مـا عــدت أبســـم للصبــاح ونـورهسيـــان يـــومــــي عتـــمة وأصيـــلا

الــدار مــا عــرف السعـادة أهلــهافلـــقد غـــدت أنبـــــاؤهــا تنــكيلا

 

سلني عن الأحرار كيف تشردوا فالحر صار بهمه مشغولا

 

سلني عن الشعب الأبي تزعزعت جنــــباتــه فغـــدى يعيـش فلولا

يا نــاعيــا لســـــليــل بــــدر إنــــنــي اجـــد اصـطباري فقده مخذولا

قد كنت ءآمل أن يعيش لكي يرىللنــــصر فـــوق جــــبالنا إكـــليلا

ويرى الشباب وقد توافد جمـعـهليــقـــيم مجــــدا في عمان أثيلا

 

وتمر نزوى في خاطره أثناء ليالي غربته المؤرقة فيتجدد أسفه وتثور ثائرة أشواقه ليهتف مناجيا إياها مناجاة المتألم المضطربة أحاسيسه تجاهها وتجاه قلعتها العتيدة وأسواقها أفلاجها وبساتينها وكل ما تحمله من رموز خالدة تتراءى شاخصة بجلالها أمام ناظريه:

 

فلكم حملت الشــــوق نارا فـي دميكـــادت تقـــطع منـــي الأحـــــشاء

حدث عن الحصن العريق وما اعترىجنــباتــه وهل ارتضى استخذاء

وارمق قبــــور الصالحــــين بنظرة واحـــمل لهـــا مـن أفقك الأشذاء

واجعل ضياءك لـ«العلاية» بسمةوعــلى «السفالة» خضرة وصفاء

واحمل لـ«عقر» الأهل نفحة خافق مــــا زال يقـــبس مــن هنــاك إباء

واسكــــب بـ«دارس» مــــن ضيـــائكحـزمة تضفي عليه طهارة وبهاء

 

ويأتيه وهو مقيم في أبوظبي سنة 1969م نعي خاله الشيخ أحمد بن سعيد الكندي، وكان هذا الشيخ أحد أساتذته، ومن بين أقرب المقربين منه فتنفجر عواطفه وتنفلت مشاعره لهذا النبأ الفظيع المفجع الضارب بسهمه بواطن القلب وصميم دواخله وحزنه لوفاة خاله وأستاذه يتضاعف لأنه كان غائبا عن إلقاء النظرة الأخيرة وعن التشييع والدفن وعن مجلس العزاء حيث يتعذر عليه الحضور:

 

بكيتك حتى كدت بالدمع أشـرقوروحــــي من بين الجوانح تزهق

بكيت على بعد فلا الجسم مـاثلأمامي ولا النعش المسجى يحلق

ولكن في قلبي لأحـــمد صــــــورةبـأنوارها قلبي مدى العمر يخفق

رعاني بالتوجيه والرشد يافعـــاوراقبــــني والخـــــطو للغد مطلق

فـإن ســـر إخـــواني نجـــاح لقيتهفمــن أفق الكندي بالسعد يشرق

و يا موت إن تبعد عن العين فاضلافمـــلء عمـــان فيــــضه متـــــدفق

يمـــوت ولــــم أرزق عـــزاء أقيمهولا خــــطوات نحـــو مثـــواه أنفق

ولــن يكشف الأحزان إلا زيــــارةلقــــبر بــــــــــــه أنــــواره تتـــــــألق

سلام تراب «العامرات» فـــكم لنابـــأرضــــك مــــــن أهل لهم نتشوق

 

ولقد أخبرني بنفسه أن ثقافته الدينية واللغوية كان مصدرها الأكبر في الأساس شيخين اثنين درس عليهما في غرة شبابه أولهما هذا الشيخ وثانيهما الشيخ العلامة سالم بن حمود السيابي والشيخ أحمد بن سعيد هو الذي اختارته الحكومة لمرافقة البعثة الطلابية المرسلة إلى بغداد بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين ليرشدها ويوجهها وعبدالله الطائي أحد أفراد تلك البعثة ويومها كان ما يزال صبيا دون سن الشباب.

ويستثار ومعه قومه المغتربون من مسرحية ظهرت في الكويت كان بطلها عمانيا أطلق عليه اسم «خلفان» يعمل خادما في بيت إحدى الأسر الكويتية رأوا في ظهوره بتلك الكيفية كما لو كان انتقاصا للشخصية العمانية ولعل الأمر ليس فيه كثير استرابة لولا توتر مشاعرهم وقتها واضطراب أحاسيسهم من جراء معاناة الغربة والتشرذم:

 

استسلــــــمت عــمان للبـــــــكاءلـلأنيــــــــــــــن فــــي حــــــزن

ورضخـــت للــــدهـــر يــرمـــيهابـــــأصنـــــــــــاف المحـــــــــن

فشـــعـــــــبها كـــيـــــــانـه فـــــــيالعـــــــالمــــــين ممـــــــتـــــهن

كــــم مــــن أخ مـــن حـــــــــولهمحـــمـــلـــهم عــــــار الـــــزمن

فشـــــعــــبها «خـــــــــــلفان» فيمطبخـــــــــه كــــما يظــــــــن

هــم يغـــــــفلون أنــــه امـــــــسذرى المـــجـــــــد حـــــــــضن

وأن أســـطـــــــــــــــــــولا لــــــــــهحـمــــــــاهــم مـــن غـــير من

يــــا قــــــــومنــا إن رضخــــــــتعمــــان مـــا حيــــاتنا إذن؟

غــــدا تــــــرون شعــــــبـــــــــكمينـــــــفـض أثـــقــال الـوسن

يسمـــــــــــعــكم «خـــــــــــــلـفان»عن أبنــــــائه وعـــن وعـــن

 

خلفان هذا عامل المطبخ المحتقر كان يوما صاحب أسطول عظيم أسبغ حمايته على الخليج كله وغدا سوف ترونه منتفضا يسترجع أمجاد وطنه ويحدث بثقة عن تاريخه وحضارته العريقة وعن أعلامه المتميزين.

وفي غربة الطائي الأولى في باكستان أواخر أربعينات القرن العشرين الميلادي الماضي، وكان ما زال بعد في بدايات شبابه أتاه خطاب من صديقه الحميم الشاعر هلال بن بدر من مسقط أثار عواطفه وأشجانه فرد حزينا منفعلا:

 

بلادي مهلا لا تثيري خــواطريكفــــاني الذي أبديه عنك كفاني

على كبدي يا «مزن» قرحة حسرةلحـــــــالك توري النار بين جناني

بـــلادي على مـا كنت أنت عزيزةوقومي وما جاروا رفاقي وأعواني

أبـا بـدر قـد هيجـت فيَّ خواطرَ وهـــــذا خطابي فيه كشف بياني

أحـــاول كتــمــان فتــبدو كــأنهــــاأواذي موــج ســـاعة الفيــــــــضان

فـــبــالله فخـــر القطر زدنا فإنماقريضـــك منـــهاج الـــرشاد أراني

 

ويكتب الشاعر إلى الشيخ محمد بن عبدالله السالمي «الشيبة» مهنئا بوصوله سالما إلى خارج عمان أيام احتدام حوادث الجبل الأخضر واصطخابها في خمسينات القرن العشرين:

 

يا ابن عبدالله يا ركن الهدىمـــن كســــبت المجد سعيا وأبا

جــئت فـــالأنفس لــولا محنةبعـــــمــــان لـــتـــــثـــنت طــــــربا

أبتــــاه هـــــــــذه خــــــاطــــــرةوفــــدت عنـــد سمـــاعي للنـــبا

عشـت للحــــق نـصـــيرا ذائداتقـــرأ الأجــيال عنـــك الكتـبا

 

وعلى الرغم من كل المآسي والعواصف فهو لا يضعف إيمانه بـأن عمان ستنهض وستلقي عنها أثقال الهموم وستشق طريقها نحو مستقبل جديد يفيض منه النور بروح واثقة لا حد لإرادتها:

 

استــــــسلــــمـت عـــــــــــــمان؟كــــــــــلا لـــــو بــــــدى لنـــا نعــم

 

عمان لا يمكن لها أن تستسلم بل ستقف ثابتة صابرة صامدة وإن تخيل للبعض أن ذلك الواقع الرهيب تستحيل إزاحته بسبب تراكم الظلمات وانسداد الأفق وتعاظم الخطب فالطوارئ زائلة في النهاية والفرج بعد التأزم سيظهر وإن أبطأ وتأخر والشدة سيليها زهو الأفراح وانبثاق السعادة وطبول الابتهاج:

 

إذا مــــــــــا ردد المــــــــــــذيــاعفـــــــي زهـــــــــــــو وفــــي فخــــر

ونـــــادى أيـــــها الأبطــــــــــــال تـــلـــك مــــواكـــــب الـــــــنـــصر

فـليـــــل عمـــــــان قــــــد ولــــى وهـــــــذا مطـــــــلع الفــــــــــــجر

فقــــــــل للصــــوت يــــا أهــــــلاأتيـــــت بشــــــــــعـــلة البــــــشر

وهيــــــــئ للبـــــــــــــناء يــــــــداوعـــــــزمــــا كـــالمـــــدى يفري

وردد جـــئـــــــــــــــت يـــــا داري إليـــــــــــك ليــــــبـــــتــدي دوري

ومسقــــــط أصبــــحت أفــــــقاليـــعرب طيــــــــلة الـــــــــــدهـر

وتـــــلك مسنــــــــــدم تـــــــزهووتخـــــلع صبــــغــــة الــحـــــزن

ومــــــلء صحــــــــــار أبطــــــالمحـــــوا أســــطــــورة الــوثــــــن

ونــــــــزوى فـــــي خـــــــمائلــــهاتضــــاحــــــك بســــمة الــــزمن

ومـــــــــن صــــــور عــــــلا صوتأطـــاح بغـــــيــــــهب الــمــحـــــن

وكــــــــل عمــــــان قــــد هبــــتتــــــــردد فــــــــــرحـــة المـــدن

 

وينزعج الشاعر أعظم الانزعاج غداة رحيل العلامة الكبير الشيخ الرقيشي في السجن بعد مكثه فيه لمدة اقتربت من أحد عشر عاما ولهذا المصاب الجلل يخفق نبض أعماقه بالانفعال ويبرز هيجان عواطفه ولكنه ينظر إليه بحسبانه بداية تلاشي سحب الظلام الكثيفة عن سماء الوطن:

 

هـــذا الــرقيشي الشهيد حياتهصـارت على سبل الكفاح منارا

فقضى ومـلء عمان من أنبائـــهوقـــع يهـــز العـــاصف الـهدارا

يــا راحـــلا وعـــمان من فقدانهثكــلى تــــقاطر دمعــها مدرارا

ما إن رأيت كمثل موتك موقظهـــز البــــلاد ونـبـــه الأفــكارا

 

وشاعرنا وهو يرى قومه في ذلك العناء المتصاعد وتلك الحياة الأليمة القاسية والتشتت في أماكن الاغتراب يطلق صيحة البشرى لهم بأن ثمة زعيم قادم سوف يقوم بهدم أسوار الظلم المحيطة بالوطن ليعانق الغد المنتظر المأمول وكان ذلك عام 1965:

 

إن الــزعــــــــيم هــــــــو الــــذيبالــــرأي يبــــني الــــــــســؤددا

ويعـــــــيد للـــوطــن العـــــــزيزتلـــــــــــــــيده متجـــــــــــــــــــــددا

ستــــــــرون عنــــــد ظـهــــــــورهأنــــي مـــــــــددت لــــه اليــــــــدا

وجـــمــــعت كـــل مــــواهـــــــبيودعـــــــــوت شعــــــبي منـــــشدا

اليـــــوم قـــد ظـهــــــر الزعيموذا الكـــــــــفاح تــأكــــــــــــــــــدا

يا قــــــوم هيـــا اســتــــبـسلـــواوابنـــوا البـــــلاد عــــلى الهدى

فعـــــمان تـــــــرقب خــــطوكم والـــــــكل بالبـــــــشرى شـــــدى

 

وبعد غيبة الشاعر عن وطنه لأكثر من عشرين عامًا ها هو يعود إليه ليبدد الشوق ولتسعد عيناه برؤية معالم مسقط التي طالما افتقدها وحلم بها وتمنى لقياها:

 

يا بلادي ما اغتــربنا ما نأينا طالــما أنا رجـــــعنا فالتقـــــينا

كــل مـــا لاح لقلـــــــــبي معــــلم سأل القلب ترى الآءخر أينا؟

مرحبــــا بـــالأرض ألفيت بها منـــبت الــــروح بـه أنفض أينا

مرحـــبا بالأهـــل أرتـــاح بهمبعــد هجــــر ونــوى أذنـا وعينا

يــا بـــلادي هـــاك قــــلبي إنهقلب حر ما ارتضى في العمر شينا

 

وأخيرًا يذهب الشاعر ضمن وفد الصداقة لزيارة البلدان العربية سنة 1970م لفتح الأبواب مع الأشقاء والالتقاء بهم وإزاحة الحجب التي كانت تفرض العزلة على عمان وتمنعها من دخول البيت العربي لمشاركة أهله أفراحهم وأتراحهم وحضور مؤتمراتهم والاقتراب منهم والخطاب يجيء به الشاعر على لسان عمان:

 

شهدتكم بين السحاب مشاعلاتشــــع إخــــاء بـــل تنــــير أمـــــاني

تشقون ءآفاق السماء كأنمارسمتم على الأجوا مئاثر قحطان

أرادكم «قابوس» رسل قرابةلأبنــاء عـــم مـا نســونا بهـجـــــران

قطعنا لهم أرحامهم مع عزلةوهم مجمع القربى وخيرة أعوان

 

تلكم وقفات مع عمان وعنها في شعر عبدالله الطائي يتجلى من خلالها تعلقه الدائم بوطنه وذوبانه فيه واشتياقه له حين كان يكابد مآسي الغربة وشقاءها.

■ نشرت هذه الدراسة في العدد الماضي من مجلة نزوى ضمن ملف خاص عن الشاعر والأديب عبدالله الطائي

تعليق عبر الفيس بوك