أبعاد استراتيجية (4)

 

مكاتب إدارة الاستراتيجيات: الركيزة المفقودة

د. هلال بن سعيد الشيذاني

في كثير من المؤسسات التي لديها خطط استراتيجية، نجد أن إدارة شؤون ومتابعة تنفيذ الاستراتيجيات مُسندٌ إلى مكاتب الجودة أو التخطيط، إلا أن المكان الصحيح لهذه العملية التي تُعتبر عصب حياة المؤسسة والقاعدة التي تسير عليها لسنين قادمة، ليس في دوائر الجودة التي ترتبط بمرحلة ضمان جودة الخدمة، ولا مكاتب التخطيط المعنية بالتخطيط دون التنفيذ؛ وإنما مكاتب متخصصة بإدارة الاستراتيجيات تسمى "مكتب إدارة الاستراتيجية" (Strategic Management Office).

للإدارة الاستراتيجية أربع مراحل أساسية، هي: التخطيط لمرحلة الإدارة الاستراتيجية، تحليل البيئة الداخلية والخارجية، إعداد الاستراتيجية، تنفيذ الاستراتيجية، وترافق هذه المراحل الأربع مرحلة خامسة مستمرة هي التقييم وتعديل المسار، التي قد ترتبط بها الجودة من حيث جودة المُخرَج.

تعنى مكاتب التخطيط بجمع البيانات الإحصائية وتنسيق العمل التخطيطي داخل المؤسسة، لكنها لا تتابع التنفيذ، وبالتالي تواجه الخطط تحديات كبيرة بسبب الفجوة بين فكر المُخَطِّط وفكر المنفّذ. وفي الجانب الآخر، تُسند متابعة تنفيذ الخطط إلى دوائر ضمان الجودة التي تعمل عادة على التركيز على معايير الجودة المؤسسية والتي هي جزء مكمل لإدارة الاستراتيجية، وعادة ما تبنى على نموذج (ADRI) القائم على تحديد طرق ضمان الجودة، ثم تطبيقها، ثم مراجعة النتائج ومن بعدها إحداث التحسينات.

تعمل مكاتب إدارة الاستراتيجية في أطر أكثر شمولية بدءًا من إعداد استراتيجية لمرحلة إعداد الاستراتيجية المطلوبة، والتي تتضمن اقتراح اعضاء الفريق العامل على تحليل البيئة وإعداد الاستراتيجية، والوثائق اللازم الرجوع إليها لإعداد الاستراتيجية، والموارد الإنسانية والمالية التي يتطلبها إعداد الاستراتيجية النهائية، وتضع آليات وحدود إشراك القطاعات والأشخاص ذوي العلاقة، وتضع جدولا زمنيا لإعداد الاستراتيجية ومراحل الإعداد التي تبدأ بالتحليل وتنتهي بتسليم الوثيقة إلى الجهات العليا للاعتماد، بعد ترجمة الخطة الاستراتيجية إلى خطط تنفيذية بالتشاور مع الجهات المختلفة، ووضع برنامج التقييم وتعديل المسار. تتركز مسؤولية المكتب لعد الاعتماد في تنسيق العمل مع جهات الاختصاص بالتنفيذ، وعقد ورش عمل خاصة برسالة (مهمة) المؤسسة أو القطاع والرؤية المستقبلية والأهداف الاستراتيجية لمختلف شرائح ذوي العلاقة، ومتابعة التنفيذ ورفع تقارير دورية إلى الفريق المشرف على تنفيذ الاستراتيجية أو اللجنة، حسب ما يتم اعتماده.

في المؤسسات التي تحتوي أحد الجهتين أو كلاهما، مكاتب وإدارات التخطيط وضمان الجودة، تظهر جليًّا مشكلات التنفيذ وفقدان موارد يمكن للمؤسسة أن توظفها بشكل أفضل وأكثر فاعلية. فمن الملاحظ أن مكاتب التخطيط تسهم في التخطيط، ليس كجهة مسؤولة عن إدارة التخطيط، وإنما كعنصر من بين عناصر عدة في المنظومة، وبعد اعتماد الاستراتيجيات، تُحال إلى دوائر الجودة لإدارتها، وهم ليسوا من قام بإعدادها، وبالتالي فإن الفاقد بين المخطِّط والمتابِع للتنفيذ كبير، تخسره المؤسسات. كما نلاحظ أن بعض القائمين بشؤون التخطيط أو الجودة، ليسوا متخصصين في المجالين، وإنما يتم تعيينهم بناء على خبرات اكتسبوها، وهؤلاء يفتقدون المعرفة العلمية المتخصصة التي هي الأساس الذي يتم بناء عليه صقل الخبرات وتوجيه الفكر التخطيطي والتنفيذي. وكما لا يمكن أن نطالب المهندس بتشخيص مرض إنساني، ولا الطبيب لتحديد عطل فني، فإن منظومة الإدارة الاستراتيجية هي أيضا من المهم أن تُسند إلى كفاءات متخصصة ليس في التخطيط الاستراتيجي الذي هو جزء المنظومة ولا الجودة التي هي مكملة للمنظومة فحسب، بل إلى متخصصين في الإدارة الاستراتيجية بمنظورها الكامل والشامل.

بفصل إدارة الاستراتيجية عن دوائر ضمان الجودة، يتوفر لدوائر الجودة المجال للتركيز في الهدف الرئيس الذي أنشئت من أجله وهو متابعة تطوير وتحسين جودة الخدمات المقدمة من المؤسسة وضمان أنها تتوافق مع معايير الجودة المؤسسية أو العالمية. كما أن وجوده في معزل عن دوائر التخطيط، أو بدلا منها، يمنح المؤسسة المجال لإيجاد منظومة استراتيجية متكاملة بدءًا من التخطيط وانتهاء بالتنفيذ وتقييم العملية بكاملها تحت مظلة واحدة.

لهذا، فإن لوجود مكاتب إدارة الاستراتيجيات بعدٌ استراتيجيٌ يتمثل في دورها المهم والرئيس في إدارة عملية الإدارة الاستراتيجية والتي يعتبر منها التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ مرحلتان فقط من بين خمس مراحل، وإن كانت لهما أهميتهما. كما أن وجود هذه المكاتب، يمثل محور توازن لصالح المؤسسات مع وجود الشركات الاستشارية المتخصصة في إعداد الاستراتيجيات؛ إذ عدم وجود كفاءات متخصصة في المؤسسات لها القدرة على تقييم عمل الشركات الاستشارية يُحمّل المؤسسة أو الدولة تكاليف التبعات التي قد تنتج عن أخطاء خلال وضع الاستراتيجية، وكما هو معلوم أن "أهل مكة أدرى بشعابِها"، فإن أهل كل بلد أدرى بما يتناسب مع بلدانهم بناء على المعطيات والأطر السياسة والاقتصادية الاجتماعية والتقنية والقانونية والبيئية الواردة في نموذج تحليل البيئة (PESTLE). كما يكتسب هذا البعد أهمية من حيث عمل هذه المكاتب على توافق استراتيجيات المؤسسات مع الاستراتيجيات الوطنية كخطط التنمية الخمسية، وربطها بالاستراتيجيات القطاعية كالتعليم والسياحة واللوجستيات وغيرها التي هي في معزل عن الاستراتيجيات المؤسسية إلا تلك التابعة بصورة مباشرة للقطاع.  كما برزت لهذه المكاتب أهمية مختلفة في المرحلة الأخيرة، مع إنشاء "وحدة دعم التنفيذ" التي تحتاج في تنسيق عملها إلى مكاتب للإدارة الاستراتيجية داخل المؤسسات تعمل كحلقة وصل مع "وحدة دعم التنفيذ" وتسهم في ضمان سير وحدات الجهاز الإداري للدولة بصورة متوافقة مع الخطط الوطنية وتضمن قيامها بدورها في التنفيذ.

خلاصة القول، أن وجود مكاتب لإدارة الاستراتيجيات في المؤسسات المختلفة له أهمية كبيرة في تحديد الأدوار وإسناد العمل إلى المختصين ذوي المعرفة العلمية والخبرة العملية لضمان سير تنفيذ الاستراتيجيات بالطريقة الأصح، وفي ذات الوقت، فإنه يفرّغ مكاتب التخطيط وضمان الجودة لتُكثّف جهودها فيما هو مجال اختصاصها؛ إلا أنه ومن أجل أن تنجح التجربة فإن ذلك يُحتّم تحقق أمرين أساسيين، وهما وضع الكفاءات المناسبة في هذه المكاتب، وبعد تحقيق ذلك، إعطائها الصلاحيات والدعم اللذين تحتاج إليهما.  

    تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك