حاتم الطائي
يُسجِّل التاريخُ، اليومَ، صَفْحَة مُضيئةً جديدةً في سِجلَّات مَسِيْرة نَهْضَتِنا العُمانية المباركَة، التي وَضَع أسَاسَاتها قائدٌ مُلهَم ومُلهِم، بفكرٍ مُستنيرٍ، ورُؤى نيِّرة، وقيادة حكيمة يُمثلها مَوْلانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه.. مسيرةٌ عامرةٌ بالخير، اخْتَصرتْ الطريقَ أمام وطنٍ وشعبٍ بَيْن زمانيْن مُتباينيْن شكلاً ومَضْموناً؛ انتقلتْ بلادُنا خِلالها من فترةٍ زمانيةٍ مُظلِمة، إلى رِحَابِ التطوِّر والنَّماء والنُّهوض.. مِثالاً يُحتذى، وتجربةً إنمائيَّةً تبعثُ على الفخْرِ والاعتزاز، كانت ولا تزال مَصْدَر إلهامٍ، لم تستطع أمامها قرائحُ الشعر أن تُقاوم جماليات مُفرداتها، فانسابتْ تنْسْج حَبَكات إنشادية، وقَصَائد حماسية، وأهازيج شعبية، تنبضُ بالولاء والانتماء، وتشحذ الهممَ لمواصلة البناء والعطاء؛ رفعةً لوطنٍ لم يكن يومًا مجرَّد حُدود جغرافية تَحْتَضن مِسَاحات تقدَّر بمئات الكيلومترات، بل هو نحن، ونحن هو.
إحدى هذه الأغاني الوطنية الأكثر رُسُوخًا في الرُّوح العُمانية، صاغتها قريحةٌ شعريَّة لـ"الشاعر الوزير" الراحَّل عبدالله بن مُحمَّد الطائي؛ عَنْوَنَها واسْتَهلَّ أبياتَها بـ"صَوْت للنهضة نَادَى"، مُجْمِلاً ومُفنِّدا ورَاصِدًا بَيْن سُطورها التجليات الأول لعَهْد عُمانيٍّ جديد، ورُؤية ثاقبة بعيدة لمَوْلانا حضرة صاحب الجلالة، ومترسِّماً استشرافات نهضةٍ شُموليةٍ للإنسان والأرض، لم يُمهل القَدَر شاعرنا الكبير الحياةَ إلى اليوم ليراها واقعًا يَرْفُل في نعيمها وطنٌ وشعب، عاكسةً عناوينَ أساسيَّة لبَرْنَامجٍ وطنيٍّ تخلَّقت ملامحه من رَحِم اللحظة، لحظة انبلاج النور في كَبِد سماء عُمان يوم الثالث والعشرين من يوليو قبل سبعة وأربعين عامًا، بأبعادها الشمولية، وعلى قاعدة: "أنَّا اليوم مَحَوْنَا.. مَحَوْنَا كلَّ فسادٍ.. لا ظُلم ولا طغيان".
لقد تغلغتْ صِدْقية المنهج الذي بَنَى عليه الطائي كلمات قصيدته إلى عُمق المعنى؛ فكانت الأوصاف والتشبيهات تُصِيْب عَيْن دلالتها؛ وهو ما يُمكن أن نلمَسه في قوله: "بثلاثة وعشرين يوليو قد حطَّم أصفاداً، وأزاحَ ظَلَاما عنَّا"، و"صافَحْنَا الفجرَ بأجفان، ورفعنا الأعناق صعادا". كما لم يفُته نَسْج صُورةٍ زاهيةٍ لمَلْحَمة وطنيَّة كاملة نسمِّيها اليوم "الشراكة المجتمعية"؛ وصفًا لتعاضُد فئات المجتمع خلف قيادة واحدة، من أجل هدفٍ واحد؛ اسمه: عُمان؛ "أنا فلَّاح"، "فابنوا مَعَه الأمجادا يا أبناء عُمان الأجوادا"، "أنا المرأة"، "يا عُمَّال ويا إخوان ويا من خَرَجُوا من محن"، "وأنا التلميذ". فضلا عن الصُّورة البانورامية التي ظَهَر فيها التكامُل المناطقي والقَبَلي: "فتعالِي يا أوطان وتيهي يا مسقط في المدن.. وتباهي يا صلالة"، "في نزوى، في صور، في كلِّ عُمان"، "قَيْد الأرض وناصر وجلندى ومهنا"، "يا جلندى، يا جيفر، يا شاذان، يا أحمد، يا فيصل، يا سلطان". حُضور المرجعيات التاريخية كذلك، والوطنية، والحضارية، أعْلَى من كَعْبَ القصيدة على رَصِيْفَاتها من أغانينا الوطنية: "يا إسلام، نعم يا دين الأخيار، نحميك وحق المسجد والمختار"، "يا أسطولا خاض بحار وبنى للفخر منار"، و"يا جيشا أجلى البرتغال بالشعب نساء ورجال".. كلُّ هذه المُعطيات والتغنِّي بوَصْف الحال، أوْصَلت شُطُر القصيدة إلى خاتمةٍ حماسية، تؤصِّل لمنهجية البناء والنهوض: "سِيْرُوا قُدُما، إنَّ الأوطان تُصان، ودعوا العلم لكم بهجة بالدين يزان".
لَقَد نجح الطائي -الذي لم يُعايش من عُمر نهضتنا المباركة سوى بدايتها، قبل أن تُوافيه المنية قبل الذكْرى الثالثة ليوم النهضة المباركة بخَمْسة أيام (18 يوليو)- أن يَخْلُدَ بأبيات قصيدته، التي أبقتْ جَذْوة الوَطَن في النفوس مُشتعلة، مُبتعِدًا عن مقارنات أدبية بَيْن حالتين لزمانيْن مختلفين، وَاضِعًا بحسِّ المواطِن نُقطة بآخر سطر عَصْرٍ مُظلمٍ، ليفسح المجال أمام حالةٍ عُمانيةٍ مناوئة، لها خصوصية المجتمع بقواسمه المشتركة، لبناءٍ وطنٍ رؤوم نتفيَّأ اليوم ظلاله، ونعيش على خيراته.
.. إنَّ ذكرى يوليو المجيدة وهي تتغشَّانا اليوم، ونحن نعيش أزهى عصور العلم والعمل والأمل في مستقبل أكثر نهوضا ونماءً، ستظلَّ مصدرَ إلهام، يَفْرضُ على الجميع -نُخبًا ومواطنين- الاضطلاع بأدوار أكبر تَرْعَى -بعَيْن الحماية- المُنْجَزَ النهضويَّ المتحقَّق، وتحفظ على عُمان سِلْمَها الاجتماعي ودَوْرَها الحضاري، والتركيز على بناء الذات؛ فعلى الطالب أن يدرس ويجد في دروسه، والمثقف أن يكتب ويجيد، والموظف أن يُتقن عمله، والعامل، والمدير، وصولا إلى أعلى قِمَم الهرم الإداراي والوظيفي، رِجالا ونساءً، الجميع على عاتقه مَسؤولية نهضة الوطن، بُنيان مرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، فتنميتنا التي نستظلُّ اليوم بخيراتها، والاستقرار الذي ننعم به، والقيم التي تشكل وجداننا، كلها بمثابة حياتنا على هذه الأرض الطيبة، ولابد من الذود عنها، والعمل على تطويرها، والسير بها إلى الأمام.
ويبقى القول في الأخير.. إن عُمان اليوم وهي تُطفئ شموع عامها السابع والأربعين، لَيلْهَج لسان حال أبنائها بأنْ لا شُكر يَرْقَى ولا عِرفان أوْفَى من تجديد العهد والولاء لرُبَّان السفينة وقائد المسيرة، في عالمٍ تتقاذفه المحن، وتزدادُ أمواجُه وعواصفُه العاتية، مُيمِّمين وُجُوْهنا شَطْر وجهةٍ واحدةٍ عُنوانها الشُّموخ ومواصلة البناء والنهوض، وكلَّ عام وأنتم عُمانيون...!