نحو مفاهيم أكثر انفتاحاً (9)

الاجتهاد المستنير بديلاً عن الجمود المظلم

د. صالح الفهدي

حِيْن نتمعَّن في بَوَاعث النهضات التي قامتْ عليها دولٌ تعرَّضت لكوارث ومحن مثل اليابان وألمانيا، ودولٌ أُخرى حشدتْ قواها نحو الحضارة -أمثال: ماليزيا وكوريا الجنوبية- نجدُ أنها التفتت إلى موروثها الديني أو الثقافي لتنتقي منه ما يعينها على نهضتها، وعمرانها مع أخذها في الاعتبارِ طبيعة العصرِ الذي تعيشهُ، وما يتطلَّبه النهوض من أفكارٍ ووسائل مختلفة عن الماضي.

هذا الانتقاء تطلّبَ رؤية متوازنة، ومتحرِّرة في الوقت نفسه؛ مُتوازنة في تعاطيها مع التاريخ والخصوصية والقيم والعادات والتقاليد، ومتحررةً من التبعيةِ المُلزمةِ لكل موروث؛ إذ تنتقي ما تراهُ صالحاً ومتوائماً مع روحِ العصرِ دون إخلالٍ بجوهر الهُوية.

لكنَّ المفاهيم التي سادتْ مُجتمعاتنا قد أصابتها بالجمود والتقليد، فأنشأت حالة فارقة إلى حد النشاز بين سكونية الشرق، وحِراك الغرب..! فظهر الأمر وكأن الدين هو السبب المباشر للسكونيةِ التي بسببها تقوقع المسلمون في دوائر التنازع الفقهي، متمسكين بقيود النص دون زحزحة ومهتمين بمسائل شكلية ليس لها اثرٌ بعيد في حراك الأمة وانتشالها من غفلتها..! لكنَّ الدينَ شأنٌ، وسلوك أتباعهُ شأنٌ آخر.

ما يُؤرِّقني هو بقاؤنا جامدين رَهْن قراءات قديمة، اجتهدَ أصحابها في وقتها فاستقرت في عقولنا رغماً عن شعورنا بالاختلاف معها في مسائل لم يتصالح العقلُ معها بالرضا؛ لأنها لا تتوافق مع مقاصد الدين كما نحسب حكمته العالية، وكأنما اقتصرت التفاسيرُ على بعض المفسرين في حقبٍ ما وحُجرَ على المتأخرين اجتهادهم، وهذا تقليلٌ من شأنهم، واستخفافٌ بعطاءاتهم.

كم نشعرُ بفرحةٍ كبيرةٍ حين يخرجُ إلينا مجتهدٌ مُجددٌ بقراءاتٍ حديثة معضودةً بالبراهين العقلية القريبة من العقل على خِلاف السابقين، وفي المقابل نشعرُ بالأسى حينَ ينقلُ بعض من نحسبُ فيهم التجديد من الشباب الواعي الرأي في مسائل تقبلُ الاجتهاد فيها، وإعادة النظر نقلاً دون اجتهاد يتسع له الاختلاف، وتجوزهُ رحابةُ الدين. هؤلاءِ هم أحد الرجلين: فإما أنهم ناقلو فقهٍ، فهم مرددون غير مجددين، وإما أنهم لا يستطيعون مجابهة التيار التقليدي الغالب والمهيمن!

إننا حين نتحدث عن تجديد الدين، فليس المقصود العقيدةِ، وإنما الأفهام المتعلقة بمقاصد العقيدة، وقراءتها وفق معطيات حديثة؛ إذ إنَّ بعض المسائل سادها نوع من ضبابية وغموض المفاهيم؛ لهذا فإن الواحد ليقفُ حائراً إزاءَها.

ولا شك أنَّ الاجتهادات العلمية التي أبانها العالم الفيزيائي الدكتور علي منصور الكيالي تبعثُ فينا الأمل لترسيخ المفاهيم الروحيةِ للعبادة؛ فعلى سبيل المثال: لم نسمع طوال حياتنا مغزى الرقم 27 درجة لصلاة الجماعة حتى جاءنا بتجربة علمية يقولُ عنها "عملنا دراسات معقدة لقياس الطاقة بجهاز "الكريليان" -نسبة إلى العالم الروسي سيمون كريليان- وهو جهاز يقيس الطاقة عند الإنسان، وقد أجرينا التجربة على مجموعة من المصلين فارتفعت الطاقة عندهم 27 ضعفاً" سماعُ المسلمُ لتجربةٍ كهذه يصبُّ في زيادةِ حرصه على قيمة أداءِ فريضة الصلاة جماعة إلى جانبِ أسبابٍ اجتماعية ونفسيةٍ أُخرى.

ويبين فوائد الوضوء للصلاة من حيث أن "له فوائد عظيمة من خلال إزالة الشحنات الكهربائية الضارة التي تنزل على الأرض وتصيب الإنسان بآلام المفاصل والروماتيزم".

وفي مسائل كثيرةٍ لا نجدُ ما يقنعنا بصحتها؛ لأنَّ الأحكام فيها لا تتوافق مع الحكمة التشريعية منها وهذا أمرٌ مهم.

الإشكالية هي في عدم بيان الحكمة من الحكم الشرعي، وأخذه مأخذ القطعي الذي لا يقبل الاجتهاد فيه، كما أنَّ بعض التفاسيرَ المتعلقة بالنص القرآني أو الأحاديث الشريفة لا تتوسَّم النظر البعيد من مقاصد المشرع الحكيم، وإنما تتشبثُ بما توارثته من تفاسير. في حين أنَّ بعض الفقهاء لا تتسع صدورهم لقبول النقاش مع غيرهم، وكأنما يرون في ذلك تجنياً على الدين، وتداخلا بالأهواءِ فيه..! فإن قيلَ لهم غير ذلك ردوا باستنكار القائل واتهموه بأنه تبعاً لهواه..! لهذا أصبحَ النقاشُ مع بعضِ الفقهاءِ مما يحذرُ منه ويبتعد ليس بسبب عدم التخصصية والكفاءةِ وإنما بسبب الردود الجافةِ المنتظرة من بعضهم..! وفي هذا أمثلة كثيرة لا نريدُ الخوض فيها لأسباب عديدة منها ما ذكرته أخيراً!

لقد كان للإمام مُحمَّد عبده اجتهاد في تفسير القرآن الكريم أسماهُ المنار يُعتبر التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يبين حكم التشريع وسنن الله في الإنسان، وكون القران هداية للبشر في كل زمان ومكان، مُراعيا فيه السهولة في التعبير، يقول أحميدة النيفر عن نهجه إنَّه تميز بميزتين أساسيتين: الميزة الأولى هي تصفية التراث التفسيري القديم؛ أي استبعاد بعض الاتجاهات التي كانت من خلافات مذهبية وعقدية وبعض الإسرائيليات وبعض الأشياء التي هي أقرب إلى الخرافات إلى آخره، الميزة الثانية هي أن يكون التفسير متفاعلاً مع مقتضيات المجتمع واحتياجاته، فلا بد أن يكون مصغياً لهذه الاحتياجات، ويتفاعل معها ويقدم لها الإجابات. من هذه اللحظة لم تعد التفاسير هي اهتمامات لبعض العلماء، الخبراء، بما كتبه هذا المفسر أو ذاك، بما اهتم به من آيات الأحكام أو اهتم به من جوانب العقدية الكلامية، أصبح المفسر منتبهاً لما يطرحه المجتمع من تساؤلات ويبحث عن إجابة عنها، ومن هذه اللحظة ستظهر اتجاهات في التفسير يعني المنار سيفتح مسلكاً جديداً أننا لسنا ملزمين بكل ما ورد في التراث التفسيري القديم، ينبغي أن نفرز أن نقوم بعملية فرز ونختار أشياء ونلغي أشياء أخرى لا نعتمدها هذا من جهة، من جهة ثانية لا بد أن نكون في حالة تفاعل مع المقتضيات الجديدة.

يتوافق هذا الاتجاه مع ما تحتاجهُ الأمة لاستنهاض الحضارة العربية وهو إطلاق قدرات العقل العربي من قيود التقليد، وإفساح مجال النقد البناء أمامه وهو الذي أعاقه حتى الآن أولئك الذين يرفضون التغيير؛ لأنهم يريدون الاستمرار في استجلاب قوالب التراث القديم دون نيةٍ الخروج منه من أجل تطويره وتحديثه.

... إنَّ بقاء الكثيرِ من المفاهيم القديمة التي قد تكون صالحة في زمنها لا يتناسبُ مع عصرنا الحاضر، ويجبُ أن يعادُ النظر فيه نظراً لتغير البيئات، والأحوال وغير ذلك مما يمكن أن ينظر إليه فقه المقاصد، يقول جيفري لانج وهو أمريكي مسلم في كتابه "حتى الملائكة تسأل": "لقد تغير الكثير من الأشياء منذ الماضي، حينما كانت تُطبَّق الشريعة الإسلامية، ويعترف الآن المسلمون ليبراليين كانوا أو معتدلين أو المحافظين بالحاجة الماسة لتعديل الشريعة بما يتناسب مع العصر الحاضر"، ويورد على ذلك مثلاً حول مصطلح "دار السلام والحرب"، نافياً أن يكون هذا المصطلح مناسباً للعصر.

ولا شكَّ أنَّ بعض المسائل والقضايا تحتاجُ إعادة اجتهاد أو تصويبٍ؛ حيث لا يشعرُ بعض المسلمين نحوها بالراحة والطمأنينة مثل قضية ضرب المرأةِ التي وردت في القرآن الكريم، هذا الأمر حفز باحثين كالمفكر الإسلامي السعودي الدكتور عبدالحميد أبو سليمان لبحث هذه القضية وأفرد لها كتاباً خاصاً اسمه: "ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية؟!" ذهب فيه إلى رأي خاص في تفسير معنى "الضرب" الوارد في الآية، فأبو سليمان بعد رجوعه إلى استعمال لفظة "ضرب" ومشتقاتها في القرآن، وبصيغها اللازمة والمتعدية، وجد أنها استعملت بصورة مجازية فيها معنى العزل والمفارقة والإبعاد والترك؛ فالشيء يضرب مثلاً أي يستخلص ويميز حتى يصبح جليًّا واضحاً، والضرب في الأرض هو السفر والمفارقة. وبالطبع فإن تفسيره هذا لم يرق لكثيرٍ من العلماء الذين يصرون على "الضربِ الحقيقي" وفق شروط محددة..! فهل وعوا أنَّ أغلب الرجال لا يتدرجون أصلاً فيما أمرَ الله به من خطوات، وأن الضربَ في حقيقته عند الغضوب لا يكون بفرشاةٍ أو السواك، وهل أنصفوا المرأة في المقابل من عنفِ الرجل الشرس القبيح؟!

الشاهدُ مِمَّا ذكرته أننا بحاجة اليوم لإعادة قراءة الموروث بما لا يخرج من سياق المفهوم العام للعقيدة وتوافق ذلك مع القرآن الكريم؛ إذ إنَّ الانحرافات في التفاسير، والإيغال المتوارث في التشدد قد أنتجَ عقليات متزمة، وجماعات إرهابية ترفع كتابَ الله على أسنة سكاكينها وهي تحز الرقاب، وترفع عقائرها بكلمة التوحيد وهي تبقرُ بطون الأبرياء!

هذا كله إضافة للتخلف الذي تعانيه الأمة الإسلامية خاصة العربية منها بحاجة لجرأةٍ وشجاعة من المخلصين الغيورين على دين الله أولئك الذين ينصفونه مما لحق به من الأوهام والخرافات والتأويلات الجاهلة التي جعلته في نظر غير المسلمين دين عنفٍ وإرهاب، بل وصدت عنه بعض أتباعه ممن لم يفهموا جوهره، ويعوا روحه!