أبعاد استراتيجية (3)

أطر التواصل المؤسسي مع المجتمع

د. هلال بن سعيد الشيذاني

تختلف المؤسسات عن الأفراد حين تتعامل مع الرأي العام. وتواجه مؤسسات عديدة تحديات متباينة، من بينها كُنه الخطاب الموجه للرأي العام، ولغته، ومع من يكمُن الرد ومتى يتحدد الرد وإلى أي مستوى تمضي المؤسسة في التعاطي مع الردود. ففي حين برزت في بعض المؤسسات تجربة يمكننا تسميتها "التوجّه التلقائي" وهي قيام بعض المسؤولين بالتصريح أو التغريد أو الرد بصورة مباشرة نيابة عن المؤسسة أو القطاع الذي يعملون فيه، كانت هناك أيضا تجارب أخرى، قامت فيها المؤسسات بالرد الرسمي في قضايا شخصية معنية ببعض المسؤولين فيها وليس للمؤسسة ارتباط بها. وهنا يتبادر السؤال الأكثر أهمية في فهم منظومة التواصل مع المجتمع: هل تصدر هذه التصريحات أو التغريدات بناء على إطار إعلامي وسياسة تواصل مجتمعي معتمدة، أم أنها اجتهاد وليد اللحظة؟

   يلاحظ المتتبع لمنصات المؤسسات الكبرى على مستوى العالم، بأنّ هناك فصلا واضحا بين الحسابات الشخصية للمسؤولين فيها وبين الحسابات المؤسسية، إلا أنّه قد يحدث في بعض الأحيان، أن يقوم المسؤول أو رئيس المؤسسة، بإعادة تغريد خبر نُشر في الصفحة الرسمية للمؤسسة بعد أن تمّ نشر الخبر من قبل المؤسسة أولا. وهنا تبرز حقيقة إدراك ضرورة فصل المؤسسات عن الشخوص، لأنّ شخصنة المؤسسات وربطها بأسماء المسؤولين فيها، يقلل من مفهوم العمل المؤسسي، ويثبتُ فكرة أنّ المؤسسة إنّما تعمل بتوجيه شخصي منفرد، وليس لأنّها مؤسسة تقوم على أنظمة وأطر وسياسات.

نعم، هناك حالات استثنائية برزت خلال الفترة الماضية وهي حسابات رؤساء دول أو رؤساء وزراء في بعض الدول، وهذه تعتبر حالات استثنائية لأنّ الشخصيات تكون قمة الهرم المؤسسي العام وليس مؤسسة بحد ذاتها، وفي ذات الوقت هي أيضا حالات استثنائية كما قلنا، لأنّ لكل منها نهجا مختلفا في التعامل مع الرأي العام والحدود التي تتحرك في أطرها.

إن وجود "أطر تنظيمية للتصريح الإعلامي" أو ما يسمى أيضًا "السياسات الإعلامية للمؤسسة" له بعد استراتيجي مهم، حيث تحدد هذه التنظيمات تسلسل الصلاحيات وقنوات حركة المعلومات داخل المؤسسة، وشخص المتحدث، وما يمكن للمتحدث أن يصرِّح به دون الحاجة إلى الرجوع إلى الجهات الأعلى في المؤسسة ومتى يحتاج هو أيضًا أن يطلب الإذن بمحتوى التصريح، لأن المؤسسات في ظل الانفتاح الإعلامي لم يعد من الممكن أن تبقى بعيدة عن المجتمع والتعامل مع متطلباته وتساؤلاته ومداخلاته.

تفتقد أغلب المؤسسات إلى هذه الأطر التي ترتبط عادة بهيكلة المنظومة الإعلامية للمؤسسة، والتي قد تتطلب وجود متحدث رسمي، وجهاز إعلامي مؤهل يعمل في ظل استراتيجية معينة توضح القاعدة العامة للتعاملات بين أجهزة الإعلام في المؤسسات وبين الأجهزة الأخرى التي في كثير من الأحيان ما تكون العلاقة بينهم مشحونة بالشد والتحفظ، إذ ترى الجهات الإعلامية أحقيتها في الاطلاع على المعلومات لأنها تتحدث باسم المؤسسة، في حين ترى الأجهزة الأخرى ملكيتها للمعلومات وأنه لا يحق لأي جهة أخرى التصرف بأي جزء من هذه الملكية دون الرجوع إليها.

يرتبط وجود منظومة إعلامية متكاملة للمؤسسة بتعيين متحدث رسمي لأنه انعكاس لمستوى التنظيم الداخلي، ليس للعمل الإعلامي فحسب، وإنما التنظيم الكلي للأدوار والمهام داخل المؤسسة. وهو ما يرتبط استراتيجيا بتوصيف الأعمال الذي يوضح شبكة العلاقات بين الوحدات المختلفة في الجهاز الإداري الواحد وحدود دور كل وحدة داخل الجهاز في مقابل الوحدات الأخرى. وينتج عن وضوح الأدوار وتوصيف الأعمال انخفاض حاجة المسؤولين إلى استخدام منصاتهم الشخصية للإعلان عما هو مختص بالمؤسسة. كما ينتج عن وجود التنظيم الداخلي للتواصل المجتمعي أن يتم دراسة نصوص التصاريح بمهنية عالية وتدقيق للمعلومات وانتقاء دقيق للمصطلحات والعبارات الموجهة إلى الرأي العام بما يضمن بقاء العلاقة إيجابية بين جهة التصريح ومتلقيه، دون المساس بكرامة أي من الطرفين التي قد تتسبب بها عبارة لم تحمل المعنى المراد إيصاله، أو قُرئت بطريقة غير التي تعنيها.

يرفع التصريح الإعلامي المدروس مستوى شفافية المؤسسة وثقة الرأي العام بها، في مقابل حرصها داخليا على أن تتوافق الأعمال التي تقوم بها مع التصريحات التي تصدر عنها، وهو أحد معايير قياس الأداء المؤسسي وتقويمه. وهنا يبرز بعدٌ استراتيجي آخر لتنظيم العلاقات مع المجتمع ووضع الأطر المناسبة، وهو أن اختيار ممثلي المؤسسة للتواصل مع المجتمع، ينبغي أن لا يُبنى على المظهر العام للمتحدث أو قربه من القيادة في المؤسسة، وإنما يتطلب الاختيار توافر عدد من السمات المميزة في المتحدثين أو مديري التواصل من أهمها، الخبرة، والحكمة، ولباقة الحديث، والتروّي، وسعة الصدر، والنضج الفكري والشخصي للمتحدث، وفهم المجتمع؛ إذ لا تعني التخصصية هنا الكثير بقدر ما تعنيه حكمة الواقف أمام الرأي العام، والمؤسسات لا تريد من خلال التواصل مع المجتمع فتح نار الخلاف بينها وبينه، كما لا تريد أن تخوض تجربة خاسرة من البداية، ومن ثم تعود للقول بأن التجربة فشلت.

إن وجود الأطر المنظمة للعمل الإعلامي والتعامل مع المجتمع، لا يعني إخفاء قيادات المؤسسة، وحكر الظهور الإعلامي على شخوص بعينها، وإنما تحدد الاستراتيجيات أدوار رؤساء الوحدات المكوّنة للمؤسسة ومتى يقتضي الوضع خروجهم في حوارات أو تصريحات، لأنهم أصحاب الاختصاص والمطلعون على تفاصيل المشاريع والخدمات أو السياسات، ومتى يمكن أو حتى يجب على رئيس الوحدة أن يتحدث بنفسه. فلرؤساء الوحدات أدوارٌ إعلامية مهمة، فمنهم ينتظر المجتمع طمأنته في الأزمات، وهم من يُتوقع أن يخرجوا للمجتمع بالقرارات المصيرية التي قد تحدث جدلًا في المجتمع. ومن الأمثلة الأحدث على هذا التوجه، خروج رئيس محافظي بنك إنجلترا للرأي العام في اليوم الذي قررت فيه بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي ليطمئن المجتمع والقطاعات الاقتصادية بوجود سيولة كافية لدى البنك تضمن استمرار الأعمال وأن هناك خطة قد وضعت للخروج من تبعات هذا القرار عندما قرر البريطانيون ذلك.

خلاصة القول، إن وجود أطر إعلامية للعمل المؤسسي، ووضع استراتيجيات إعلامية تواكب الوضع الحالي وتستشرف المستقبل، وبناء شبكة انتقال للمعلومات داخل المؤسسة بما يضمن فاعليتها الإعلامية داخليا وخارجيا، هو أحد الأبعاد الاستراتيجية المهمة لوجود المؤسسة في المجتمع.

تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك