الغرق في الجزئيّات حجب رؤية الكليّات

 

 

عبيدلي العبيدلي 

كعادته التي لم يغيرها منذ ما يزيد على عقد من الزمان، اتصل بي الصحفي المخضرم (....) في تساؤل يشوبه بعض التحليل المبطن، عما يجري في المنطقة العربية. وكعادته أيضا استرسل في سرد الكثير من المعلومات الغنية التي غالبا ما تملأ جعبته المهنية، محاولا رسم مجموعة من السيناريوهات "المتربصة" بمستقبل المنطقة العربية. ولم يخف وهو في غمرة سرد تلك التفاصيل المثيرة المحتضنة للكثير من التساؤلات المهمة، أن يدفع نحو الأمام السيناريو الأكثر حظا من التطبيق وهو اندلاع مجموعة من الحروب العربية المحدودة بين دول عربية مختارة. أنهى هذا الصديق، الذي أكن له ثقة مهنية لا أخفيها عليه، حديثه بعلامة استفهام كبيرة تحمل تحديا تكمن في ثناياه إشارة إلى إقبال المنطقة العربية على المزيد من الفوضى التي تتداخل فيها العوامل الاجتماعية مع تلك الاقتصادية كي تنتج في نهاية الأمر مولودا، يعتبره ذلك الصديق مشوها خلقا وخلقا، لأنّه كان نتيجة علاقات غير شرعية وغير متوازنة أيضا.

 

تركني ذلك الصديق أمام مشهد عربي، فيما لو تبلور ونال حظه من التطبيق، مؤلم ومرعب في آن. فهو، أي ذلك المشهد، لن يضع المنطقة العربية برمتها تحت سطوة تحالف قوى متعددة بينها العالمي وآخر إقليمي فحسب، بل ستجر العرب خطوات فلكية نحو الوراء بالمنظور التاريخي لحركة الشعوب. ولن يقتصر الأمر على الجانب السياسي فحسب، بل سيكون الأمر مصحوبا بمجموعة معقدة من التراجعات الاقتصادية والاجتماعية.

سيناريو مخيف من مستوى ذلك السيناريو يفرض على من يتبناه التريث المزود بشيء من التمعن في التفاصيل. وهنا استوقفتني كلمة التفاصيل، أو بالأحرى منهج الغرق في التفاصيل، وهو سلوك استشرى في ذهنية نسب عالية من المفكرين العرب، بمن فيهم المحللون الاستراتيجيون، الأمر الذي غيب عن هؤلاء القدرة على سبر غوار الصورة الكلية الكبيرة الشاملة. باختصار، ونظرا لسيادة فكر ومنهج تحليل تلك النسبة، ضاع العرب في الجزئيات التي حجبت عنهم القدرة على رؤية الكليات. غرق العرب في اللهث وراء المتغيرات، بوتيرتها السريعة المتحركة، وآلياتها الديناميكية المتسارعة، فضاعت من بين أيدينا الثوابت بعواملها الاستراتيجية المؤثرة، وعناصرها القوية الراسخة.

 

ولذا فربما آن الأوان كي نسترجع بعضا من تلك الثوابت، أو بالأحرى الأكثر أهمية بينها، والأشد تأثيرا على مسار الأحداث المتلاحقة التي تشهدها المنطقة العربية منذ ما يزيد على عقد من الزمان. ويمكن رصد ذلك الأهم بينها في النقاط التالية:

 

- أن العالم يرى العرب، بغض النظر عن رؤيتهم الذاتية لأنفسهم، ككتلة حضارية بشرية واحدة، بمن فيهم الأقليات التي تحتضنها منطقتهم. ومن ثم فعندما ترسم القوى الأجنبية سياساتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، كبيرا ذلك الشرق الأوسط أم صغيرا، فهي تضع المنطقة العربية بتلاوينها السكانية في سلة واحدة. وعليه تحدد موقفها من تلك الكتلة البشرية على أساس موقفها من العنصر العربي، بوصف كونه العامل الحضاري السائد، والأكثر حضورا في مسار تاريخ هذه المنطقة الحديث والمعاصر.

 

  • إن بروز أي قوة وطنية محلي على صعيد أي قطر عربي من شأنها أن تشكل عنصر استقطاب قوي للأقطار العربية الأخرى، ومن ثم فمن غير المسموح لأي قطر عربي أن ينعم بالاستقرار الذي يؤمن له عوامل النمو والتقدم، وبالتالي المكانة التي تؤهله لمنافسة القوى الخارجية، عالمية كانت تلك القوى أم إقليمية. ولعل في تكالب القوى الخارجية على مصر الناصرية، ونجاحها في ضرب التجربة الناصرية قبل أن يتسنى لها امتلاك الأسنان القوية التي تؤهلها للدفاع عن نفسها في وجه أية مشروعات تخريبية خارجية الكثير من العبر لمن يريد أن يقرأ التاريخ بشكل موضوعي، ويستخلص منه الدروس على نحو علمي متحضر.

 

  • أن العالم اليوم، يربط بشكل وثيق، يكاد أن يصل إلى حد التطابق، وفي ذلك الكثير من الصحة، بين العروبة والإسلام، ومن ثم تتحاشى الدول العظمى عالميا، والكبرى إقليميا، عند رسم سياساتها التمييز بين الإثنين كي لا تغرق هي الأخرى في التفاصيل فتغيب عنها الصورة الكاملة. وربما ينطبق ذلك على القوى المحلية التي كان من أسباب تعثر مشاريعها هو ذلك البتر القسري بين هذين العاملين. فلسبب تاريخي سرى ذلك المزج الجذري العميق بين العنصرين: الديني والعرقي، وجاءت المحصلة إيجابية في كل جوانبها، وجميع إفرازاتها.

 

  • أنّ الأغلبية العربية - الإسلامية ضيعت بوصلتها ومن ثم فقدت طريقها الصحيح، عندما حاولت مصادرة حق الأقليات في ممارسة طقوسها الحضارية أحيانا، وجردتها من حقوقها السياسية والاجتماعية أحيانا أخرى، وحولتها إلى عنصر مناوئ بدلا من أن تكون عاملا معاضدا، وقدمتها على طبق من ذهب للمشروعات الخارجية التي وجدت فيها مدخلا قويا لاختراق الجبهة العربية الإسلامية من الداخل، من أجل تشويه صورتها أولا، وتمزيق نسيجها الاجتماعي ثانيا، وفرض سيطرتها على مقدراتها ثالثا وليس أخيرا. وكان الخاسر الأكبر في تلك الحالات هم سكان المنطقة من العرب المسلمين وغيرهم من الأقليات الأخرى.

 

لذا واستطرادا لما أثارته مكالمة ذلك الصديق، آن الأوان كي يقرأ العرب ما تشير له الأحداث التي هبت رياحها على المنطقة منذ ما يربو على العقد من الزمان متمسكين بما تفرضه عليهم تلك الثوابت، متحاشين الانجراف في اتجاه ما تغريهم به بعض المتغيرات الطارئة التي من غير المستبعد أن يكون نسبة عالية منها من صنع تلك القوى الخارجية كي تحرف أنظار صناع القرار العربي عن رؤية الصورة الحقيقية في إطار كلياتها الصحيحة الرحبة، وليس في دوائر جزئياتها الضيّقة المتوهة.

 

فمن رحم الكليّات تولد المجتمعات البشرية السليمة المعافاة عبر ولادة طبيعية سلسة، ومن خلال رؤية استراتيجية صحيحة راسخة، وفي المقابل تتناسل من حاضنات الجزئيات التكوينات السياسية المشوهة المنطلقة من نظرة قصيرة المدى، ضيقة الأفق.