أبعاد استراتيجية (2)

أول مئة يوم (القوانين واللوائح)

 

 

د. هلال بن سعيد الشيذاني

وإن كان فرانكلين روزفلت الذي استحدث مفهوم "أول مئة يوم" في الرابع والعشرين من يوليو من عام 1933، لم يكن يشير إلى أول مئة يوم من رئاسته، إلا أنّه جرى بعد ذلك في عرف السياسة الأمريكية، أنّ أول مئة يوم للرئيس الجديد تمثّل منعطفا مهما في قياس قدرته القيادية على رئاسة الدولة. تحمل هذه المرحلة المبكرة من الرئاسة عددًا من العوامل المهمة في تحديد مسار مؤسسة الدولة في ظل قيادتها الجديدة، والتي هي في ذات الوقت تكوينا جديدًا نسبيا. وهنا يتبادر إلى ذهني أول مئة يوم في إنشاء أي مؤسسة وطنية أو إعادة تكوينها. 

مع صدور كل مرسوم سلطاني سامٍ بإنشاء مؤسسة أو اعتماد قانون جديد أو معدل، أو نظام لمؤسسة قائمة أو لقطاع معين، نلاحظ أنّه يرد في مواد المرسوم ما ينص على تحديد مدة معينة عادة ما لا تقل عن مئة يوم، لإصدار اللوائح التنفيذية للنظام أو القانون المُعتمد. فإذا كان النظام هو نظام محدّث أو معدّل، فإنّ المرسوم السلطاني ينص على استمرار العمل باللوائح السابقة حتى صدور اللوائح الجديدة التي عادة ما يُصدرها الوزير المختص أو رئيس مجلس إدارة الهيئة أو المؤسسة. وإذا لم تكن هناك لوائح سابقة، فإنّ المؤسسة تبدأ مشوار وجودها بالبحث عن اللوائح المناسبة ليتم بعد ذلك تبنّي بعض منها أو تعديلها وتكون المؤسسة خلال مرحلة إعداد اللوائح، منغمسة ليس في تنفيذ المهام التي أنشئت لأجلها وبالتالي الانطلاق نحو معايير النجاح والإنجاز، وإنما وضع الأسس. وهكذا بدلا من أن تمضي المئة يوم الأولى في تأسيس العمل في المؤسسات أو البدء بتطبيق واختبار مواد اللوائح، تنقضي في البحث وتداول ومناقشة مواد اللوائح، التي تدخل بعد ذلك في شد وجذب بين الأطراف المختلفة التي ربما لم تعمل على النظام وقد تواجَه ببعض المواد فيه التي لا تعرف مبررات صياغتها أو معانيها الدقيقة. وهنا يجول تساؤل مهم حول سبب الانتظار إلى حين صدور المرسوم ثم بعد ذلك فقط يبدأ العمل بإعداد اللوائح؛ فلماذا لا يتم العمل على إعداد اللوائح في ذات الوقت الذي يتم فيه العمل على صياغة النظام أو القانون؟

يقول العرب "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، ويقول غيرهم "الوقت مال"، وفي كلا الحالتين، الإشارة واضحة إلى أنّ تخطيط الوقت واستغلاله له أهمية كبيرة، هذا من ناحية. أمّا من الناحية الاستراتيجية، فإنّ إعداد كل الأسس وصياغتها ليتم وضعها موضع التنفيذ مع بداية إنشاء الهيئة أو المؤسسة أو الجهاز، يمثل عاملا استراتيجيا مهما لنجاح تلك المؤسسة أو تطبيق ذلك النظام، فإذا تمّ اعتماد النظام، وصدرت معه اللوائح في مدة لا تتجاوز الأسبوع الأول، فإنّ سهولة تنفيذها تكون أكبر، والتحديات تكون أقل، لأنّ صاحب الفكرة أو الجهات التي عملت على اقتراح بنود النظام والمراحل التي يمر بها ذلكم النظام والجهات التي يمر عليها، يسهل عليها أن تعمل في الأمر مرة واحدة، بناء على مبدأ "المقارنة المتداخلة" وهو أن تتم قراءة مواد النظام أو القانون، في ذات الوقت الذي تتم فيه قراءة الإجراءات والمسؤوليات التي تحددها اللائحة، وفي هذه الحال، لا شك أنّ القراءة تكون أكثر منطقية وأكثر عمقا، فالقارئون للمواد يركزون في كل قراءة على مادة، وبالتالي تظهر لهم حتى تحديات التنفيذ والتطبيق بعد ذلك. أمّا مع الممارسة الحالية، فإنّ المعدّين للقانون أو النظام عادة ما يكونون أشخاصا مختلفين عن أولئك الذين يقومون بإعداد اللوائح وخصوصا للجهات حديثة التشكيل، وبالتالي، فحين يحاول معدوا اللوائح ترجمة مواد القانون أو النظام إلى لائحة تنفيذية أو غيرها، يقفون أحيانًا أمام بعض المواد متسائلين عن معناها الدقيق، لأنّ من أعدها لم يعد جزءًا من المنظومة، وهذا ما يجعل قراءتهم لها غير مكتملة، وقد ينتج عنه ترجمة غير دقيقة للمواد التشريعية في المواد الإجرائية.

كما أنّ انشغال المؤسسة خلال مرحلة تكوينها الأولى بمحاولة وضع الأسس واللوائح، يضعف دورها التنفيذي، إذ أنّ قدرتها على المفاوضة مع الجهات ذات العلاقة تكون بغير القوة التي يتم بها اعتماد القوانين والأنظمة، وبالتالي، تستغرق بعض اللوائح مددًا كما أنّ القوانين الجديدة التي تصدر، يمثل تأخر صدور اللوائح المرتبطة بها تعطيلا لها، وكلا الأمرين يكون له عواقب سلبية على العاملين في المؤسسة من جهة وعلى المتعاملين معها من جهة أخرى، ففي حين تحتاج بعض المواضيع إلى قرارات مباشرة وحازمة، تقف المؤسسة عاجزة عن اتخاذ تلكم القرارات ويقف المنتسبون إليها عاجزون عن اتخاذ أي قرار خشية التبعات القانونية المترتبة على القرار غير المدعوم باللوائح اللازمة، وهو ما يسبب تأخرا في الإنجاز ينتج عنه تكاليف غير مرئية كبيرة للدولة.

خلاصة القول، أنّ العمل على القوانين مع اللوائح المنفذة لها جنبا إلى جنب يحمل بعدًا استراتيجيا مهمًا، فهو يقوي صياغة كليهما، ويوفر الجهد والوقت والإجراءات، ويدعم قيام المؤسسات الجديدة، ويرسخ العمل بالقوانين الجديدة متى ما صدرت، كما أنّه يمنح المؤسسات مساحة الانطلاق نحو تحقيق أهدافها ووضع استراتيجياتها وفي ذات الوقت يرسخ الإحساس بالثقة لدى العاملين فيها والمتعاملين معها.

تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك