نحو مفاهيم أكثر انفتاحا (8)

وعي الفرد قبل مسؤولية المجتمع

 

د. صالح الفهدي

بعد محاضرةٍ قدمتها عن الانفصال الشائع بين العبادة والسلوك، تقدَّم إليَّ أحد الحضور طافحاً بالطاقة السلبية، ومُجسِّداً إنْ كان لها صورةٌ بشرية..! إذ كان كما يقال قد "غسل يديه" من المجتمعِ، فبالغَ في تصويرهِ لمفاسدهِ، وانحرافاته التي لم يعد نافعاً لإصلاحها جهدَ فردٍ، أو سعي جماعة كما يزعم..! قلتُ له: واضحٌ عندي أنك تحملُ موقفاً شخصيًّا سلبيًّا (وهذا ما اتضح لي بعد فترةٍ من لقائي به)، فردَّ بالقول مُنكراً ذلك، فأجبتهُ: إنني أُدركُ تماماً ما تقول، لكنَّ أبا الأسود الدؤولي يقول: "المعاني مطروحةً على قارعة الطريق"، بمعنى أن الأسلوب الذي تتحدثُ به ليس هو الأسلوب الأنجع والأفعل لعلاجِ العيوب الأخلاقية، ومثالبه السلوكية، وإنما هناك من الأساليب ما هي ألينُ وأرفقُ وأبعدُ أثراً، هذا من ناحية، ثم من ناحيةٍ أُخرى إنني لو آمنتُ بيأسكَ وقنوطكَ ورفعتُ يدايا كما تبتغي أنت فإنني أكون قد أخللتُ بالواجبِ المُلقى على كاهلي نحو مجتمعي، فيعج المجتمعُ في فوضاهُ، ويموجُ في أزماته!

إنَّ التبريرية والهروب الفردي من المسؤولية هما ما يجعلُ الفرد يهرعُ إلى تحميل المجتمعِ كل نقيصةٍ أو عيب، غيرَ مدركٍ أنَّه أصلُ المجتمع الذي هو في الأساسِ مجموعةٌ من الأفراد، يصلحُ المجتمعُ بصلاحهم، ويفسدُ بفسادهم..! لهذا أصبحنا نسمع في نقاشات كثيرة اتهامات الأفراد للمجتمع..! فأصبح المجتمع أشبه بالخرافةِ التي تتلفظها الألسنُ دون أن تتمعنها العقول..! فأورث ذلك في نفوس الأفرادِ أوهاماً ظنوها أسباباً مقنعةً للتنصل، وحججاً مقنعةً للهروب، وما هي إلا هروب الراعي من رعيته، والمريض من علاجاته، والمؤتمنِ من أمانته!

وقد برز التبرؤ الفردي من المجتمع في واقعنا على عدة صورٍ، فمنها أن الفردَ لا يكترثُ بما يقع أمام عينه وسمعه من منكر واختلال؛ لأنه قد أوْهَم نفسه بالضعفِ وعدم القدرة على تغيير مجتمعٍ بحالهِ وهو الفردُ الضعيف، مع أنه يردد الحديث النبوي الشريف: "من رأى منكم منكراً فليغيره..." إلى آخره!

رَسَّخ هذا الفهم أوهاماً وأكاذيب نشرت عن المجتمع فأصبحت سائدة، بل إنها قد انقلبت مع مرور الوقت إلى ميزة يتميز بها المجتمع، فذات مرة سمعت ردود المشاركين في إذاعة محلية إنجليزية لسؤال طرحته المذيعة: لماذا تشربُ الخمر؟ فكانت أغلب الإجابات تردُ على أنه "مقبول اجتماعياً (Socially accepted) وهذا معناه أن الفرد حين صمت في بدايات الانحرافات الأولى، توارثت الأجيال هذه الانحرافات بصفتها فضائل ومكارم لا يجوز التخلي عنها؛ لأنها جزءٌ من الهُوية الوطنية!

صورةٌ أخرى لتبرُّوء الأفراد من المجتمع وتبدو واضحة في اعتزال بعض الذين يفهمون الالتزام الديني على أنه وجوب النفور من المجتمع؛ لأنه ضالٌ عن شرع الله، ثم بعد ذلك يسهل إقناعهم بتكفير المجتمع، وطبقاً لهذه القناعة المنحرفة يدفعهم أهل الفتنة والشقاق إلى قتال المجتمع الذي نعموا بفضله، وتربوا بين أحضانه!

كما ينتجُ تبرُّوء الأفراد من مجتمعاتهم وتخليهم عنها وقوفهم في وجهِ كل جهدٍ إصلاحي، أو عملٍ تطوعي من أجل ترقية المجتمع، ونشر الوعي فيه. فهؤلاءِ المتشائمون أو المحملون بدوافع شخصية لا يتركون وسيلةٌ من الوسائل إلا وضعوها حجر عثرةٍ أمام أقدام كل مصلح، ومجدد، وناصح، ومتطوع بغية أن يتعثر فلا يتابعَ الجهد والعزم لإصلاح مجتمعه، وتقويم أخلاقياته..! وكم وقفَ لنا -ولغيرنا- من يلفظُ عبارات التشاؤم "لمن تتلو زبورك يا داؤود" و"لا حياة لمن تنادي" وغير ذلك، لكنها عباراتٌ لا تفت من عضدنا، ولا توهن عزائمنا، فمن آمن برسالته وأيقن بصحة أهدافها فلن يصيخَ لهذه العبارات التعيسة النكدة!

ومن أثرِ تبرُّوء الفردِ من المجتمع الإضرار بمفهوم المواطنة، وتفكك الوطن؛ إذ إنه لا يقفُ سدًّا حائلاً دون نشر الأكاذيب والإفك والشائعات والفتن في المجتمع، بل يكون في كثيرٍ من الحالات ناقلاً ومركباً لها لأن نظره القصير لا يعينه على تدبرِ وقوع المصائب الجسيمة على المجتمع!

ومن أثرِ ذلك أيضا: إيثار الفرد توخي الصمت أو عدم مؤازرة المشاريع الإيجابية، والأفكار الإصلاحية في المجتمع؛ حيث يلتزمُ الصمت إزاء مهاجمة السلبيين للجهود الهادفة لخدمة المجتمع، وكأنما يريدُ أن يبقى الأفرادُ على حالهم من حالةِ العجز وعدم الفعالية، ولهذا يعتقد مالك بن نبي أن الذي ينقص الإنسان المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، وأكثر من ذلك أنه قد يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول إلى عمل ونشاط.

ذات يومٍ كُنتُ مُشاركاً في إحدى الندوات، فسألني أحدهم: ما الذي يمكنُ أن أفعله كفرد وإمكانياتي لا تذكر أمام قدرات المؤسسات الحكومية؟ قلتُ مجيباً: إننا لا يجبُ أن نقلل من أثرِ جهودنا كأفراد، فقد تفوق جهود فردٍ ما مؤسسة بكامل عتادها وموظفيها..! كما أنني كفرد لا أنتظر من الوزير (وقد كان أحد الوزراء مواجهاً لي) أن يطلبَ مني عملاً من الأعمال المجتمعية، وإنما عليَّ أن أبادرَ انطلاقاً من إيماني وقناعتي بأهمية العملِ من أجل المجتمع بما أمتلك من وسائل.

وفي إحدى المناسبات، تحدثتْ إحدى الفتيات عن تقصير إحدى الوزارات المسؤولة عن قطاعٍ تنموي، فرددتُ لها بالقول: إنني أوافقك الرأي بضعف جهود هذه الوزارة، ولكن لا يجب علينا أن نتحجج بهذا التقصير فنصابُ بجرثومة العجز والتقاعس نحنُ الأفراد المواطنين عن أداءِ عملنا نحو وطننا؛ فالدولةُ هي حكومةٌ وشعب، وعلينا وفقاً لذلك أن نتكامل ونتبادل الأدوار؛ إذ نستطيعُ نحن كأفراد أن نقدم الشيء الكثير للوطن، بينما قد لا توفقَ إليه جهةٌ تمتلك الموازنات الكبيرة، والكفاءات المكينة!

إنَّ لنا في التاريخ دروساً لأفراد غيروا العالم، وأسوتنا في ذلك نبينا الأعظم محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ كان فرداً يتيماً، فقيراً، لم يثنهِ انغماسُ المجتمع بحالهِ في الجهل، والخرافةِ، والأباطيل، والأضاليل بل جاهدَ وصبر وكافح لإيمانهِ بالمعتقد، حتى إنَّه روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه بكى لما مرت عليه جنازة يهودي؛ فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: نفس أفلتت مني إلى النار.. أي أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان ليرغب أن ينقذ أهل الأرض جميعاً بالإسلام من عذاب الله.

وانظر إلى أثرِ المهاتما غاندي في طرد المحتلين الإنجليز من الهند؛ ففي الوقت الذي كان غيره يدفعون الشعب الهندي الأعزل لقتال الجيش الإنجليزي المسلح فيسقطون ضحايا على أياديه، كان غاندي يجوب الأرياف والحقول حاثاً الشعب الهندي لمقاطعةٍ اقتصادية صامتة للإنجليز، حتى استطاع هذا الرجلُ الفرد أن ينصر مجتمعاً، ويطرد غزاةً محتلين..! قال عن سياسته: "إنَّ اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية، إنها اقوى من أقوى سلاح دمار صنعته براعة الإنسان".

... إنَّ على الفرد في مجتمعنا إذن أن يتحرَّرَ من المفهوم الشائع أن "المجتمع أساس التغيير" ويعتنقَ مفهوماً أقربُ وأعظم أثراً، وأقل ثمناً وهو أن "الفرد أساس التغيير"، فإن تحرر من المفهوم الأول أصبح أكثر قدرةٍ على المبادرة، وأوسعُ عقلاً على التفكير، وأعظم دافعيةٍ على الإقدام، وأكثر استعداداً على فعل الإحسان.