الأمن الغذائي ودوره في الأمن الوظيفي

 

علي المعشني

الأمن مفهوم شامل لا يمكن تجزئته بأي حال من الأحوال وخاصة في زمننا الراهن المعاش، حتى وإن تعددت مسمياته؛ فجميعها تؤدي في النهاية إلى غاية أسمى وهدف جامع فحواه السكينة المجتمعية والاستقرار العام للدولة وفئات الشعب ولتحقيق أعلى منسوب للرضا عن الوطن، كون السياسات الفاعلة في حقيقتها وفي عمق فلسفتها تنشد بسط النفع والخيرية في أكثر الفئات والشرائح الاجتماعية في الدولة، وبغياب أحد أسباب الأمن يعني الإخلال بالأمن العام بصورة أو بأخرى سواء عبر الوسائل العنفية أو القانونية المشروعة كالإضرابات والاعتصامات وخلافه والتي تسمى في بعض الأدبيات بالنهب المشروع للمال العام حيث تحمل طابع القانون وتنتج الفوضى وتعطل الموارد بشكل أو بآخر، ويتعاظم الأثر السلبي للاعتصامات والإضرابات في المجتمعات حديثة العهد بهكذا ثقافة وفي الأقطار ذات الدخول الاقتصادية المتدنية ومناخ الاقتصادات الريعية والطفيلية الهشة، وفي ظل غياب الوعي المؤسسي وانعدام حس المسؤولية لدى المسؤول والمواطن لتدارك هكذا مظاهر وما تنتجه من تداعيات عبر ما يُعرف بنظرية الأمن الوقائي وفق النظريات الأمنية وسد باب الذرائع وفق المفهوم الشرعي، كما لا تخلو وسائل التعبير عن السخط لدى ما تُعرف بالشخصية المضطهدة في علم النفس من وسائل تٌعرف وتوصف بالإضراب الخفي - وهي الأخطر - وتتمثل في تفشي مظاهر التسيب وشيوع الرشوة والكذب والنفاق وانعدام المسؤولية والتخندق خلف ثقافة بيروقراطية عتيدة ومعطلة لكل أسباب التنمية وطاردة لكل أدوات التغيير السلمي الخلاق والتطور.

كان لابد لي من هذا الاستهلال كمدخل لهذا المقال والذي حفزني له خبر توقيع الشركة العُمانية للاستثمار الغذائي على اتفاقية تمويل لمشروعها "النماء للدواجن" مع ميثاق للصيرفة الإسلامية بمبلغ (50) مليون ريال عُماني.

ويتكوّن المشروع - بحسب القائمين عليه – من (24) مزرعة ومصنع للأعلاف بطاقة إنتاجية تبلغ (50) طنا في الساعة، ومسلخ دواجن بطاقة (200) ألف طائر يوميًا، ومحطة لمعالجة المخلفات.

المشروع كأرقام وتفاصيل على الورق طموح جدًا وضرورة ملحة لرفد الاقتصاد الوطني ولتعزيز مفردات الأمن الغذائي وتعددها في السلطنة والتقليل من الاستيراد والارتهان للخارج في هذا الجانب الغذائي الهام، فكما يقول الساسة، التحكم في مصادر الطاقة يخضع البلدان والتحكم في مصادر الغذاء يُخضع الشعوب.

وما يمكنني إضافته بعين المواطن المراقب هو عدد من الأمنيات والملاحظات على هذا المشروع وأمثاله من المشروعات الوطنية والتي قد تُشكل حواضن ناجحة ومطلوبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتبسط القيمة المضافة المادية والاجتماعية على الاقتصاد والمجتمع معًا.

وعلى الرغم من يقيني بتجوال أفكار القائمين على المشروع في جملة من الدراسات والبحث لتحقيق المشروع أعلى طاقاته النفعية على الوطن والمواطن، إلا أنّ مقالي هذا قد يشكل نداء صادقًا وتذكيرًا حميدًا بأهمية تفكيرنا الشمولي ذي البعد الاجتماعي لتسبق التهافت على الربح المادي العاري والمجرد من أي منافع أو مكاسب لشرائح اجتماعية أخرى بخلاف دائرة المستثمرين حتى وإن كانت هذه الدائرة هي الحكومة.

فمن سنّ سنة حميدة فله أجرها وأجر من سار عليها، ونحن في سلطنتنا الحبيبة وبحكم أطوار دولة الرعاية الاجتماعية وإذعانًا للظروف الاقتصادية الاستثنائية التي تمر بالعالم اليوم نتيجة الهبوط الحاد لأسعار النفط وامتثالًا لها، لابد لنا من خلق ثقافات تجارية جديدة وعصرية ووسائل شراكات آمنة للمواطنين ترسخ فيهم ثقافة العمل الحر وتجعل من ممارسة التجارة نشاطا جاذبا وآمنًا، يحقق الرضا الوظيفي والأمن الوظيفي والمالي، ولن يتحقق لنا غرس قيم التجارة في نفوس مواطنينا واستقطابهم للعمل الحر والتخفيف عن كاهل الحكومة من التكدس الوظيفي إلا حين نتجه في تقديري إلى تأسيس شركات حكوميّة تكون من مهامها الرئيسة احتضان المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عبر الرعاية والإشراف والتوجيه وتسويق منتجاتها وتحسين جودتها، واعتبارها خطوط إنتاج للشركات الكبرى وشريك أساس لها في نشاطها كما هو عليه الحال في أغلب بلاد العالم وخاصة قطاعات كالدواجن واللحوم والألبان والأسماك والتمور والمنتجات الزراعية والحرف اليدوية، كونها قطاعات ضاربة الجذور في التاريخ العُماني وفي وجدان الفرد العُماني عبر الأجيال.

ففي السنوات الأخيرة شهدت بلادنا توجها جادا من قبل فئات من الشباب للعمل الحر ومنها مؤسسات تربية الدواجن اللآحم والبياض، وعلى الرغم من جدوى تلك المشروعات وانتشارها إلا أنّها تشهد تحديات وصعاب جمة منها الاحتكار والمنافسة من قبل العمالة الوافدة، وصعوبات في التسويق وتضارب أسعار اللصوص وتذبذب أسعار البيض، وفي المجمل العام معاناة القطاع بشكل عام وحاجته الماسة للهيكلة والتقنين ليصبح قطاعًا حقيقيًا ورافدًا هامًا وحيويًا من روافد الاقتصاد الوطني.

قيام شركة النماء برأسمالها الضخم وكوادرها وأذرعها الاستثمارية – بمعزل عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة - سيتسبب دون أدنى شك في كساد منتجات تلك المؤسسات وإحجام الشباب من الإقبال عليه، نظرًا للتفاوت الكبير بين مقدرات الشركة وتلك المؤسسات، رغم الفجوة الكبيرة بين الاستيراد والإنتاج من بيض المائدة والدجاج اللاحم والذي يتراوح ما بين 50 و70%، فأغلب تلك المؤسسات تستهدف السوق المحلي أو بالأحرى لا تتعدى أسواق مدنها أو ولاياتها.

هنا يأتي دور شركة النماء في أهمية احتضانها لمنتجات تلك المؤسسات وفق ضوابط وشروط وإشراف منها واعتبارها خطوط إنتاج لها، وكذلك الإيعاز والتحفيز للشركات القائمة بذات النشاط حاليًا لتسهم في تحفيز تلك المشروعات وخلق الأمن الوظيفي للقائمين عليها، والطمأنينة لمؤسسات التمويل.

الحقيقة أننا في حاجة ماسة في السلطنة وفي هذا الوقت بالتحديد على تشجيع ودعم قيام الشركات الحكومية والخاصة الكبرى والتي تسعى وتهدف إلى أن تكون حاضن لقطاع إنتاجي واسع من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهذا السعي بدوره سيخلق فرص عمل كثيرة ورضا وأمن وظيفي وطمأنة لمؤسسات التمويل بصور مريحة وخلاقة. 

قبل اللقاء: "من غير المنطقي أن توظف الأذكياء ثم تخبرهم بما عليهم أن يفعلوا، نحن نوظف الأذكياء لكي يخبرونا بما علينا أن نفعله". (ستيف جوبز)

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com