حديث في النكتة

 

جوخة بنت علي الشماخية

 

النكتة هي المزحة أو الطرفة أو الدُعابة وهي نقيض الجد ؛ أي الكلام الذي يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى، فإن بلغت إلى حدّ الإيذاء ستتحول إلى سخرية، ويمكن اعتبار النكتة نوعا من الأدب الشعبي الذي يمكن تقديمه شفويا أو كتابيا.                                                

 

لفت انتباهي في الآونة الأخيرة شيوع النكتة وانتشارها في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى المجتمع العماني وغيره من المجتمعات العربية وحتى العالمية، وتبدو لي بأنها بمثابة ثورة أو ردة فعل على ما يحدث في المجتمعات من أحداث، وربما الأحداث السياسية تعتبر مادة خصبة للنكتة التي بدورها ستنطوي على الجانبين الاجتماعي والاقتصادي وغيرها من جوانب الحياة، وهي في ذلك تشبه الكاريكاتير إلى حد كبير، حيث تقدّم في قالب دعابي يهدف إلى إثارة ضحك القارئ أوالمستمع ؛رغبة في التنفيس عن وطأة الأحداث المحيطة به، فليس هناك من لم يسمع عن النكت المصرية، لا سيما النكت التي تقال عن المصريين الصعايدة، والتي يعزي البعض سبب ظهورها إلى المستعمر الفرنسي والإنجليزي، الذي بدأ ببثها بين أبناء الشعب المصري ؛ للاستخفاف بهم وإبرازهم بصورة الغبي، مع أن أكثر معاناة الاحتلال كانت بسبب المقاومين الشجعان والذين كانت غالبيتهم من أهل الصعيد، ومن هنا بدأت السخرية منهم لغرض سياسي، والمصريون أنفسهم ساعدوا على نشر هذه النكات، فكانوا يلقونها على خشبات المسارح، كما أدخلوها في الدراما المصرية، فالكثير من موضوعات أفلامهم كان بطلها صعيديا يتعرض لمواقف تدعو للضحك .

والنكتة ليست وليد الساعة، فقد عرفت في التاريخ القديم، لكن الباحثين والمهتمين بها اختلفوا في بدايات نشأتها، فالبعض يرجع بداياتها إلى الإغريق، فيقولون إن بلاميدوس بطل حرب طروادة هو أول من اخترع النكتة، حيث أنشأ ناديا لإلقاء النكات عن العدو، ومن ثم التحقير من شأنه، وقد خلّدها هوميروس في ملحمته "الإلياذة والأوديسا"، ثم تأتى بعد ذلك النكتة الفرعونية كثانى أقدم النكات في التاريخ، وتعود الى عام 1600 قبل الميلاد، ومؤخرا قام مجموعة من الأكاديميين البريطانيين بالبحث عن أقدم النكات، فوجدوا بأن أكثرها قدمًا نكتة تعود إلى الحضارة السومرية، وهي إحدى الحضارات التي ازدهرت في العراق، وقد وجدت هذه النكتة مكتوبة في صورة مثل شعبي في العام 1900 قبل الميلاد . ازدهرت النكتة بعد ذلك في أوروبا بعد انتهاء عصورها المظلمة، ثم في البلاد العربية والإسلامية، وظهرت العديد من المؤلفات العربية التي تناولت النكات والنوادر والطرائف، كالطرائف الأدبية للصولي، والبخلاء للجاحظ، وأخبار الحمقى والمغفّلين لابن الجوزي، وجمع الجواهر في المُلَح والنوادر للحُصري.

 

 

والمزاح أمر مشروع كما دلّت على ذلك النصوص القولية والمواقف الفعلية للرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم - الذي كان يداعب أهله ويمازح أصحابه، ونظرا لطبيعة الفطرة الإنسانية تظل النفس بحاجة إلي شيء من الترويح والتخفيف من هموم الحياة وأعبائها، ولا حرج في ذلك إن لم يتجاوز صاحب المزحة حد المزاح المعقول، وإن لم يخرج عن نطاق الأدب والأخلاق . 

 

ومن الصحابة الذين عُرفوا بالمزاح النعيمان بن عمرو صحابي من الأنصار، وقد رويت عنه الكثير من النوادر والطرائف، فمرة دخل أعرابي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان: لو عقرتها فأكلناها، فإنّا قد قرمنا إلى اللحم (أي اشتهيناه)، ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واناقتاه يا محمد! فخرج النبي فقال: من فعل هذا؟ قالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى هناك، فأشار رجل إلى النبي حيث هو، فأمر بإخراجه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليَّ يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك، فضحك النبي، وأخذ يمسح التراب عن وجه النعيمان، ثم غَرِمَ ثمن الناقة للأعرابي.

 

وعبر مرور الزمن واصلت النكتة رحلتها إلى يومنا هذا، وأصبحت سريعة الانتشار والتداول مع وجود وسائل التواصل الحديثة لا سيما الواتساب، الذي يستخدمه ملايين البشر حول العالم، ولعلها تزداد حضورا في الدول ذات الحكم الديموقراطي، حيث تكون لديهم مساحة أكبر من حرية التعبير، مع وجود بعض الاختلافات في أهدافها، وأسلوب طرحها، والموضوعات التي تطرقها، والسياقات اللغوية التي ترد فيها، وأيضا أسماء الشخصيات التي تذكر فيها أحيانا، وهذه الأسماء تختلف باختلاف القطر الذي قيلت فيه النكتة، فعلى سبيل المثال في الطرائف العربية القديمة شاعت أسماء بعينها كاسم جحا وأشعب، وغيرهم من الشعراء الظرفاء الذين كانوا يجالسون الخلفاء والأمراء، أمثال أبو دلامة وأبو نواس، فبعض الشعر العربي كان يحمل روح الدُعابة، فكثيراً ما كان يختلط شعر الهجاء بسخرية أقرب إلى سخرية النكتة، ولعل هجاء المتنبي لكافور الإخشيدي، وهجائيات ابن الرومي،والحطيئة الذي هجا نفسه، لشدة شغفه بالسخرية من كل شيء، جميعها تكشف لنا أن روح النكتة كانت متجسّدة في النفس العربية منذ قديم الزمان، والآن في مجتمعاتنا الحاضرة أيضا نجد اسما معيّنا يرد ذكره  أكثر من غيره في النكت والطرائف التي يطلقها ويتداولها أبناء ذلك المجتمع.

 

ومن خلال رصد هذه النكات يمكننا النظر إليها كفن لغويّ ذكيّ، مكوّن من عدة عبارات مختصرة ومتقنة السبك، مركّزة حول فكرة محددة، تقدّم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد تجري مجرى المثل، ظاهرها الفكاهة وباطنها النقد، وهي تعكس ثقافة المجتمع، وثقافة من يصيغها أيضا، من هنا فإنها قد تحتاج إلى متلقٍ يتمتّع بقدر من الوعي والفهم والذكاء ؛ ليدرك مغزاها الحقيقي .

 

وفي الآونة الأخيرة اتّسعت موضوعات النكتة، فصار الناس لا يتركون شاردة ولا واردة إلا وصاغوا حولها نكتة أو طرفة، مسايرة للأحداث الجارية، والأزمات الطارئة، والأمور الشائعة في كل مجتمع، وقد يتناول موضوع النكتة جنسية معينة  أو فئة محددة من فئات المجتمع، بل حتى العلاقات الزوجية لم تسلم منها .                                                              

 

وبالرغم من أن النكتة فن، ويمكن اعتبارها ظاهرة صحية، ودليلا على وعي المجتمع، لكننا ينبغي أن نكون حذرين في صياغتها وفي تلقّيها ؛ فبعض النكات قد يكون لها تأثير سلبي على الفكر والقيم والعادات، والبعض قد لا يدرك الهدف البعيد لها، فبينما هي تضحكنا أيضا بصورة غير مباشرة قد تصدّر ثقافتنا إلى الآخرين دون أن ننتبه لذلك، فإن لم تكن النكتة هادفة وتعالج قضية ما، ومصاغة بألفاظ لائقة، فإنها ستترك انطباعا غير جيد عن مجتمعنا .                                                                                                  

 

في جميع الأحوال، لا يمكننا أن نمنع النكتة، ولكن الأهم هو أن نعرف كيف نحلل مغزاها، وكيف نتعامل معها، وما النكتة التي ممكن أن أساعد على نشرها، وما النكتة التي ينبغي أن تقف عندي ولا أعيد إرسالها إلى الآخرين كي لا أكون طرفا في نشرها.                       

 

 

 

**محاضر أول لغة عربية بالكلية التقنية بعبري

تعليق عبر الفيس بوك