صوم العابثين (2)

 

 

عيسى الرَّواحي

 

تحدَّثتُ في خاتمة المقال السابق عن وُجُود مَشَاهد أكثر من أنْ تُحْصَى، تتنافى مع حكمة الصيام وسلوك الصائمين، وأنَّها أقربُ إلى أنْ تكون عبثاً وجهلاً بقيمة الصيام، وإنْ لم تُفضِ إلى بطلانه ووجوب قضائه، فجديرٌ بالصائم أن يحرص على ألا يكون ضمن سياقات أحد هذه المشاهد، وإن كان كذلك، فجدير به أن يحرص على التخلص مما قد يُفسد صَوْمَه، أو قد يحرمه فضائل الصوم وغايته الكبرى المتمثلة في نيل التقوى.

** قال لي إنَّ جلوسه مع زملاء العمل فترة الصيام قد يؤدي إلى إفساد صومه لما يسمعه من لغو وغيبة. وقال لي آخر بأنَّه أكثر من عشرين عاما يأخذ إجازته السنوية في شهر رمضان؛ ليس للتفرُّغ للعبادة بقدر ما هو البُعد عن لغو الحديث والقيل والقال وقت الصيام في مقرِّ العمل. وقال لي ثالث: أشعر بأن زملائي في مقر العمل يزداد سُوْءُ حديثهم في رمضان أكثر من غيره من الأوقات، وكأنك تستبعد أنهم صائمون.

إنَّ مِمَّا يُؤسف له أن تكون بيئات العمل ملوثة حتى في نهار رمضان بأحاديث الغيبة وسائر آفات اللسان، علمًا بأنَّ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قد حذَّر من هذا السلوك، ونصَّ صراحةً على أنَّ الغيبة تُفطر الصائم؛ فعن أَبُي عُبَيْدَةَ عَنْ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال: "الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ"، وأمثال من يخوضون في أحاديث الغيبة وما يدور في فلكها قد ينطبق عليهم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صائم ليس له حظٌ من صومه إلا الجوع والعطش".

ومن خلال ما ذكرته  آنفا، فلا يظنَّن القارئ الكريم أنَّني أدعو للخمول وتعطيل الأعمال وأخذ الإجازات في رمضان الكريم؛ فهو شهر العمل والبذل والعطاء، وقد كان ذِكْرُ تلك النماذج لحرصها على الحفاظ على صومها، واستغلال شهر الصيام في العبادة سواء بالبعد عمَّا قد يُفْضِي إلى بُطلانه أو بتثمير الوقت في أعمال الطاعات والقربات.

ولا رَيْب أنَّ ما ذكرته ليس تعميماً على كلِّ بيئات العمل، فما أكثر بيئات العمل التي تعطر أجواءها بالذكر الحسن! والرسالة الموجهة إلى القارئ الصائم في هذا الشأن أن يصُوْن لِسَانه نهارَ رمضان وسائر الأوقات؛ حفاظا على صيامه وخلو صحيفة أعماله من هذه الآثام، وليشتغل في مقر عمله بأعماله الموكلة إليه، فإن كان من فراغ فليشغله بتلاوة القرآن وذكر الله تعالى وقراءة كتاب مفيد، فهو أسلم له وأفضل، ولعل العزلة وقت الصيام وقايةٌ للصائم، وترك المعصية خير من معالجة التوبة، وكل صائم بلا ريب أدرى ببيئة عمله، وأدرى بسلوكه وسلوك زملائه.

** في إحدى وسائل التواصل انتقد أحدهم بشدة إحدى الفتاوى المتعلقة بالصوم التي أفتى بها شيخ جليل، وقد نقم على صاحب الفتوى وساء إليه متهكمًا، ثم توالت ردود أخرى على شاكلة ذلك المنتقد.

لا يملك الصائم المنتقد حُجة وبُرهانا لما اعترض عليه في نص الفتوى، كما لا يملك الرد العلمي والمنهجية الصحيحة في النقد وكذا من هم على شاكلته، ولا يعدو اعتراضهم وأسلوب انتقادهم أكثر من كونه إفلاسا وجهلا وغوغائية كثرت في وقتنا الحالي في ظل هذه الوسائل الحديثة، ولم يترك المفلسون أحدًا إلا طالوه حتى علماء الدين والرَّاسخين في العلم، وقد صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".

نعم، فما أكثر التافهين اليوم الذين يتكلمون وهم مفلسون من الحجة والدليل، يتكلمون دون زاد من علم ولا معرفة، يتكلمون فيما يعلمون وما لا يعلمون، يهرفون بما لا يعرفون.

إنَّ مسائل الدين خاصة ليست كما يتصوَّر البعضُ بأنها عُرضة للأخذ والرد والنقد ممن لا يملك الأهلية الكافية في العلم والاجتهاد، وليست عُرضة للأهواء والآراء الشخصية المستندة إلى العواطف البعيدة عن الحجة والمنطق والبرهان، فلماذا يوقع المسلم سواء كان صائما أم غير ذلك نفسه في هذه المزالق؟! أليس حريا بالصائم أن يكون أكثر حرصا على صون نفسه من مثل هذه القضايا، التي قد يحسب أمرها هينًا وهو عند الله عظيم؟!

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك