مدير الوعظ والإرشاد بالأوقاف: الأموال المكتنزة تؤدي إلى خلل وفوضى في الحياة الاجتماعية

مسقط- أحمد الجرداني

الإسلام يسع جميع القضايا ويحل مختلف النوازل بدءا من الإنسان نفسه ومرورا بواقعه، لذلك أولى اهتمامه بالنفس الإنسانية وإصلاحها أيما اهتمام إذ النفس بتزكيتها والارتقاء بطبيعتها تكون أقرب استعدادا لتلقي أوامر ربها والنزول إلى حكمه "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا"وبهذا تظهر ميزة الحضارة الإيمانية الشاملة لانطلاقها من معرفة الإنسان لخالقه وتطبيقه لتعاليمه، وحينما تظهر آثار الإيمان في الإنسان يعم الخير بين البشرية ويشيع الحب والتضامن بينهم وتنتزع من قلوبهم البغضاء والأحقاد، وينطلق بذلك الإسلام إلى غاياته وأهدافه لبناء مجتمعات متماسكة قوية يحنو كبيرها علـى صغيرها ويعطف غنيها على فقيرها... وحول هذا الموضوع نواصل عرض هذا البحث بتصرف والذي أعده الشيخ ناصر بن يوسف العزري.

 

 

قال الشيخ ناصر بن يوسف العزري مدير عام الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف إن إشاعة الفقر فيه ما فيه من الآفات الاجتماعية الخطيرة التي تفقد المجتمعات الأمن والطمأنينة وتسوقها إلى الهاوية.

جاء ذلك في بحث قدمه الى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة عشر وقال فيه: لا يمكن استساغة الخلاف الأصولي وحده هنا في هذه المسألة وذلك من عدة وجوه:

أولا: أن الزكاة تجب في المال الذي هو عصب الحياة المادية فبه يقوم الإنسان بشؤونه وعليه قوام كثير من الأمور الاجتماعية فتحكمه بيد جماعة من الناس يجعل الحياة الاجتماعية مختلة النظام وهذا الاختلال يقود إلى الفوضى والفساد الذي حذر منه الله تعالى وحذر منه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا واجب في هذا المال المحكوم غير الزكاة وشأن ما ذكر من الإنفاق والصدقات كان من باب الندب الذي يرقى به الإنسان عن غيره فإذا تهاون الناس في إخراجها وقع المحذور.

ثانيا: أن تحصيل المال هو دأب كل إنسان وسعي كل مخلوق مصداقا لقوله تعالى: "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا"، وهذه المحبة يتساوى فيها الفقير والغني فتحكم المال بيد الغني ومنع حقه المذكور فيه يورث البغضاء والشحناء ويزرع الفتن والشقاق، ولا يرتق هذا الفتق غير الزكاة.

ثالثا: أن الزكاة عبادة مالية اجتماعية خالصة بخلاف غيرها من العبادات فالصلاة مثلا والصوم عبادتان بدنيتان والحج عبادة بدنية مالية، وهذه العبادات يتعلق حق الإنسان فيها مع ربه ولكن الزكاة يجتمع فيها حقان حق الله الذي تتساوى فيه الزكاة مع غيرها من العبادات وحق غيره من العباد إذ مبدؤها كما ذكرت من قبل -التكافل الاجتماعي- وكلا الحقين واجبين، ومن المعلوم أن حقوق العباد مبنية على المشاحة لا على المسامحة فمن وجب في ماله حق لغيره وجب عليه إيصاله إليه من غير توان وهل هناك أوجب حقا على الغني من الزكاة الواجبة عليه تجاه الفقير.

رابعا: مع التسليم بجواز التراخي في الزكاة هل التراخي محدود بوقت معين أم مفتوح الأجل؟ وهذا لا يسلم به إذ لو كان مفتوح الأجل لأدى ذلك إلى تفويت الواجب بالكلية وهذا ما يخالف النصوص الشرعية إذ الأحكام الشرعية لا تناط بغايات مجهولة، وإن قيل محدود بوقت معين فهل الوقت المعين في ذلك معلوم لدى المكلف أم لا وهذا لا جواب عليه عندهم إلا أن يقولوا وقته مقرون بعلمه لعاقبته وهذا مما لا يسلم لهم به إذ الأجل محتوم ووقته غير معلوم يقول تعالى: "وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ" وقال: "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ" وقال أيضا: "قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"، وقال أيضا: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ".

خامسا: مع استساغة الخلاف المذكور في إيقاع الأمر المتجرد عن القرائن فإن ذلك لا ينطبق على الزكاة إذ الخطاب في النصوص الشرعية الكثيرة على حرمة التواني في أدائها قرينة يؤكد الفورية.

يقول المولى جل وعلا في كتابه العزيز: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ".

وقال أيضا: "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 وفي الحديث الصحيح: عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله، ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل".

ثم إن تأملت ما يترتب على التأخير من المفاسد الدينية والدنيوية ظهر لك رجحان القول بوجوب التعجيل لأن المرء لا يدري متى يموت فإذا عاجله الموت قبل الأداء بقيت زكاته في عنقه، فإن أوصى بها انتقل حال السعة الذي كان للهالك إلى الوصي فيسعه من التأخير ما وسع الأول حتى يحضر الموت ثم يموت والوصية في عنقه.

فإن أوصى بها وسع الوصي الآخر ما وسع الوصي الأول وهكذا فيفضي الحال إلى تعطيل الزكاة رأسا، وكفى بها مفسدة عظيمة.

وهذا المعنى نبه عليه شيخنا الصالح-رحمة الله عليه- فظهرت لنا به أكبر المصالح.

سادسا: دلت السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم أن النبي عليه الصلاة والسلام تعجل صدقة عمه العباس فقد روى أبو عبيد في الأموال عن علي " أن النبي صل الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقته سنتين".

روي هذا الحديث من عدة روايات لم يسلم شيء منها من مقال.

غير أن تعجيل الصدقة كان لسبب معين كما ورد ذلك في بعض الأحاديث فعن أبي البختري عن علي –كرم الله وجهه- فذكر قصة في بعث رسول الله صل الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه ساعيا ومنع العباس صدقته وأنه ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام ما صنع العباس فقال: "أما علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه أنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين".

 

مناسبة تقديم الزكاة

وأضاف العزري: ذكر بعض أهل العلم أن مناسبة تقديم الزكاة لمشابهته غيرها من حقوق الأموال فلذا جاز تقديمها كتقديم الكفارة قبل الحنث وتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله وهذه كلها من حقوق الأموال بخلاف الصيام والصلاة فلا يجوز تقديمها قبل وقتها وهذا رأي الإمام الشافعي حيث قال في "الأم": "فمن حلف على شيء فأراد أن يحنث فأحب إلى لو لم يكفر حتى يحنث وإن كفر قبل الحنث بإطعام رجوت أن يجزي عنه وإن كفر بصوم قبل الحنث لم يجز عنه وذلك أنا نزعم أن لله تبارك وتعالى حقا على العباد في أنفسهم وأموالهم فالحق الذي في أموالهم إذا قدموه قبل محله أجزأهم وأصل ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام تسلف من العباس صدقة عام قبل أن يدخل وأن المسلمين قد قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر فجعلنا الحقوق التي في الأموال قياسا على هذا فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزى إلا بعد مواقيتها كالصلاة التي لا تجزي إلى بعد الوقت والصوم لا يجزي إلا في الوقت أو قضاء بعد الوقت والحج الذي لا يجزي العبد ولا الصغير من حجة الإسلام لأنهما حجا قبل أن يجب عليهما".

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك