تعددية مصارف الإنفاق في الصدقة والبعد الاقتصادي

 

بدر بن سالم العبري

   

الشرائع السماوية حثت على السعي في الأرض والكسب منها، وأعطت العقل البشري الحرية في الإبداع المالي والاقتصادي، وما نهت عنه كان قواعد عامة مانعة للظلم وأكل مال الناس بالباطل، واستغلالهم سلبيا، فحرمت الغش والسرقة والاحتكار والطبقية والربا وغيرها من القواعد الكلية.

ومن هذا المنطلق كانت الشرائع السماوية قريبة من الفطرة البشرية، فالبشر وإن طولبوا بالسعي في الأرض، إلا أنّ هناك من البشر من يولد يتيما لا عائل له، ومنهم من يفقد مقومات الإنتاج والربح، إما لضعف ما في اليد من مال، أو لضعف المستوى العقلي في الجذب والعطاء في المجال التجاري والاستثماري، ومنهم من كان ضحية أمة مستكبرة مُتلاعبة بأموال شعوبها، فتهدر الأموال فيما لا ينفع ويجدي، ويستولي عليه غير أصحابه.

هذه العوامل وغيرها كثير تولّد في المجتمع فئات فقيرة، بحاجة إلى عون مالي، لإعطائها الدرجة المرضية من الحياة، من إعانتها في الحصول على مسكن مناسب، ومهنة مناسبة، ولباس وأكل يتقوون به.

    ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن يعيش هؤلاء عالة على المجتمع والأمة، وإنما العطاء يكون لأمرين: الأمر الأول تحقيق كرامة الإنسان، والأمر الثاني التأهيل، وأصل هذا المقصد من العطاء قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}، فمانع إعطاء السفهاء المال هو إسرافهم بالمال فيما لا يجدي، ومع هذا وفق كرامة الإنسان.

         فمن حق أي إنسان أن يكون له بيت كريم يهنأ فيه هو وأولاده، ومن كرامة الإنسان حقه في المأكل والمشرب، بالمقدار العرفي الذي يتمتع به إخوانه في المنطقة أو البلد الواحد، بعيدًا عن السرف والترف، كذلك حقه في اللباس الذي يتجمل به، ويستر به عورته، قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

     والأصل في الأمة بمجموعها أن تقوم بهذا الأمر، عن طريق مال الأمة، والذي يُسمى في التراث الإسلامي ببيت مال المُسلمين، أو نحوه من العبارات والمسميات.

     ومع هذا لابد من التفاعل المُجتمعي، حيث إنّ الإنسان يعيش بالبعدين الفردي والمجتمعي، وكل منهما رابط للآخر، من هنا فرضت الشرائع السماوية جزءًا من المال يعين به القادر غيره، ليتحقق بذلك الكرامة الإنسانية للجميع، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

     وهذه الصدقة لا تنحصر في جوانب مُعينة، بل مكملة وشاملة للنقص الذي يعاني منه بعض الفئات، أو يقعون فيه لأسباب جانبية، وهذا ما تبينه الآية التالية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

    فطبقة الفقراء والمساكين لهم حق منها، وتحديد ماهيتهم يرجع إلى العصر والمكان الذي يعيشون فيه، ففقراء المدن ليسوا كفقراء البوادي، كما أنّ فقراء الخليج ليسوا كفقراء بعض مناطق القارة السوداء، لذا من حكمة الله أن ترك تعريفهم للعقل البشري، وفق العصر والمكان والحالة المالية والمعيشية في ذلك البلد.

    كذلك للعاملين في أخذها وتوزيعها حق منها، فكم صرفوا أوقاتهم، وتركوا أعمالهم لأجلها، وهذا يكون اليوم وفق العمل المؤسسي، والوظيفة المؤسسية، لتعطي ثمارها، ويظهر نتاجها للعيان.

     والمؤلفة قلوبهم لهم حق منها، فهي وإن كانت للمُسلمين، تؤخذ من أغنيائهم، وتوضع في فقرائهم، إلا أنّ رابط الإنسانية يبقى حاضرا، فالمحتاج ولو كان من غير المُسلمين، ما دام في ذمة المسلمين، فتحقيق الكرامة الإنسانية له واجب، تأليفاً لقلبه، وتحبيباً له في دين الله تعالى.

     وما نقرأه في تراث المسلمين من الاعتداد بالمذهبيات في الإعانة، وتقريب الفقير من المذهب الفلاني عن غيره، فهذا انحراف في فهم الخط القرآني، الذي جعل الأمة أمة واحدة.

    ومما ابتلت به الإنسانية حتى عهد قريب من بعثته – صلى الله عليه وسلم – فئة العبيد، والذين يؤخذون ظلمًا وجورًا، ويشترون من سوق النخاسة، فالشريعة قامت على تحريرهم، وأوجبت ذلك على الجميع، وقرنت تحريرهم بكثير من شعائر الدين كالزكاة وكفارة الصيام والأيمان وغيرها، حتى يتخلص المجتمع الإنساني من هذه العادة السيئة، وترجع الحريات إلى أصحابها، التي خلقهم الله عليها، فلا سيد مطلق إلا الله سبحانه، والناس جميعاً عبيد له جلّ جلاله.

     ومع هذه التشريعات في تحرير الرقاب إلا أنّ المجتمع الإسلامي ظل رهين هذه العادة السيئة ردحا من الزمن، حتى خلّص الله المجتمع الإنساني في الجملة بقوم لا يؤمنون بدين الإسلام، فيما فشل العلماء في علاج هذا الداء بسبب التراث البشري الذي خيَّم على النص القرآني، فأصبح داخلا في اللاهوت الرباني، وهو لعمرو الحق من نتاج البشر لا غير.

       والغارم في الدين، والذي وقع فيه لسبب معقول، كقتل بالخطأ، أو تجارة تعرض فيها للخسارة، أو أصابت بيته جائحة، فهذا مما يعان، ولو من الصدقات الواجبة.

كذلك ابن السبيل، والذي انقطع عن أهله، وفارق وطنه، كسباً لرزق، أو طلبًا لعلم، فهذا يعطى من المال ما يكفيه حتى يستغني، ويعتمد على نفسه.

تعليق عبر الفيس بوك