نحو مفاهيم أكثر انفتاحاً (4)

النتائج البعيدة

 

 

د. صالح الفهدي

 

كلّ بناء لا يمنح المدة السانحة، والعناصر اللازمة في دورة الحياة، ومراحل النشوء فلن يحقق اشتراطاته من صلابة، ومتانة، وسلامة، وطول أمد...! وكلّ شجر لا يترك ليأخذ دورته في النمو وإنّما تدخل فيه الكيماويات لتسريع إثماره، فلن تجد له من لذّة المأكل باباً، بل وعلى عكس ذلك سيكون داءً مميتاً...!

وهكذا انتشرت بيننا ثقافة "استعجال النتائج" خاصة على صعيد تنمية المورد البشري، وهي ثقافة أضرت كثيراً بالتنمية لأنها لم تصنع الإنسان وفق معايير التدرّج نحو النضج والتمكين. هذه الثقافة أنتجت مفاهيم لا تستند إلى التروي والتعقّل في كثير من مناحي الحياة، فزاد ذلك من فطرة التعجلّ في الإنسان كما وصفه الخالق عزّ وجل في القرآن الكريم.

هذه المفاهيم بدت واضحةً للعيان في كثير من صور حياتنا.. فالاستعجال مقدّم في سوء الظنّ قبل حسن الظن عند الناس، رغم أن الله عزّ وجل يحذرهم من سوء الظن بقوله سبحانه وتعالى "يا أيّها الّذين آمنوا اجْتنبوا كثيرًا مّن الظّنّ إنّ بعْض الظّنّ إثْم" (الحجرات/12).

وواضحة في الرياضة إذ لا تبنى لها قدرات الموهوبين منذ الصغر، فيدرجون عليها حتى تشتدّ أعوادهم فيصبحون مؤسسين بقدرات وكفاءات عالية. لذلك ترى الرياضي عندنا يكره الإحماء قبل البدء بالرياضة ويقحم نفسه في الممارسة الرياضية، وهذا أحد أسباب الإصابات الرياضية عندنا..

وواضحة في الكثير من المؤسسات التي لا تعير تنمية المورد البشري فتعدّه وفق برنامج معيّن، حافل بالتطبيقات والنظريات المعرفية والسلوكية لسنوات عديدة من أجل أن يقود دفّة القيادة في هذه المؤسسات..

فئة من الذين يولّون مناصب رفيعة، فيكونون فيها أصحاب قرار يستعجلون في النتائج لأنهم يسعون إلى كسب مجد يرتبط بهم. وهذا المفهوم أضرّ بالوطن وأبنائه، ومستقبله وبنائه. اللاّفت المؤسف أن كلّ مسؤول يخلف سابقه ينسف كثيراً مما كان قد أسسّه ليس لشيء وإنما لأنه يرى الأمر من زاوية أخرى، وبهذا الفكر الفاقد للخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، المفروضةً على كل مسؤول، والمتابعةً من هيئات رقابية وتنفيذية لن يظهر مشروع، ولن يقام بناء..!

وقديماً درسنا قصّة الفلاّح العجوز الذي بلغ من العمر عتياً، فضعف عوده، ووهنت قواه، وتقوّس ظهره، كان يغرس شجرةً حين مرّ عليه كسرى أنوشروان، فوقف يتأمّله، وقد داخله الاستغراب، فقال له: ياهذا كم أتى عليك من العمر؟ قال الفلاح: ثمانون سنة. قال: افتغرس فسيلاً بعد الثمانين؟ ومتى تأكل ثمره وهو لا يثمر إلاّ بعد عدة سنين؟ فأجاب الفلاّح: زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون. فمضت هذه الكلمة مثلاً بين النّاس.

ولو أن كلّ من ولّي منصباً، أو حمّل مسؤوليةً، أو سعى إلى بناء مشروع قال هذه العبارة صادقاً لاستقامت أمور الناس جيلاً بعد جيل، ولعمّرت الأوطان. إلا أن مفهوم "استعجال النتائج" قد أصبح مترسّخأً عند كثيرين.

أمّا أولئك الذين لم يكترثوا بكسب مجد شخصي عاجل وإنما كان سعيهم خالصاً من أجل الأجيال القادمة، ومن أجل سلامة البناء الإنساني والعمراني فإنّهم عملوا في هدوء، وحكمة وأناة دون أن يثيروا جلبة، أو يحدثوا ضجيجاً، تحمّلوا ما قيل عنهم لأن نتائج أعمالهم لم تظهر على الفور -كما جرت عليه عادة الناس- لكنّهم كسبوا فيما بعد ذكر المنصفين. وفي هذا فقد عيّنت إحدى الجامعات نائباً للعميد لشؤون العلاقات الدولية، فلم يره أحد في مكتبه، ولم يلمس أحد نتائج عمله، فساد شعور بالاستياء منه، وعمّ ظنّ السوء به على أنه مقصّر في عمله لخدمة الأبحاث والدراسات، في حين كان نائب العميد يطوف البلدان، ويقطع المسافات، ويعقد الإتفاقيات مع المؤسسات المختلفة لدعم الأبحاث والدراسات في جامعته، وبعد فترة من الوقت بدأت الأموال تنهال على الجامعة ووضح جليّاً للجميع ما كان يفعله طوال تلك الفترة التي كان يتغيّب فيها عن الجامعة.

إنّ أعظم المنجزات الإنسانية هي تلك القائمة على تأسيس مدروس، وبناء ممنهج، معتنى به أشدّ العناية، ولا شك بأن الإنسان هو أول المنجزات التي تصنع على عين القادة العظام بتؤدة، وحكمة، وحسن رعاية.. ولقد رأيت بأمّ عيني أطفالاً كانوا في حالة يرثى لها من عدم النظافة، والجهل إبّان انضمامهم لإحدى المؤسسات التي تعنى بتنمية قدراتهم، وإعادة تشكيلهم في أحد المجالات الفنيّة، فإذا بهم اليوم بعد أربعة عقود من البناء المصقول، المتعهّد بالرعاية من المهرة، المجيدين في صنعتهم الفنيّة..!

فإن نحن وضعنا في اعتبارنا زرع شجرة لنأكل منها نحن قبل غيرنا، وتظلّنا نحن دون غيرنا أخطأنا الفهم، وضيّعنا العمر، فمن "تعجّل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه" وإن نحن تخلينا عن الأثرة وجعلنا أهدافنا من أجل بناء لا يتعجّل النتائج بقدر ما يتطلّع إلى ثمر ناضج، وعائد وفير ودائم.

ولن يتغيّر هذا المفهوم الضيّق النظرة، القصير الأمد إلى آخر واسع النظرة، بعيد المدى إلاّ بأن نتحلّى بالإيثار، والإخلاص، والأمانة، وحب الخير لكلّ الناس. ولا شكّ أنّ الصنعة التي تستهلك وقتاً طويلاً من أجل الإتقان، والدقّة، والجودة هي الأرقى والأغلى ثمناً، ومن ذلك صناعة السجّاد التي تستغرق وقتاً طويلاً، وجهداً متقناً.

ولقد رأيت زهوراً نادرةً وغالية الثمن لأنها لا تحتاج إلى سنوات لتزهر من أمثال الزهرة المسمّاة "ذهب كينبالو Gold of Kinabalu Orchid" التي لا تتفتح براعمها إلا كل 15 عاماً..

الشاهد هنا أن ما يحتاج إلى الصبر والمجاهدة والعناية والمراقبة الممنهجة تكون نتائجه مبهرةً، طيبةً، متوافقةً مع التوقعات التي صاحبته، أما تلك المستعجلة على النتائج، الضيّقة الصدر بسرعة القطاف فستضيع جهودها وموارها سدى دون فائدة.

ولا يفهم من فكرة التأني في النتائج أنّها تسود كلّ شيء فهناك ما يحتاج إلى سرعة الإنجاز من قبيل الأعمال المعيشية البسيطة، وإنّما يقصد بها تنمية المورد البشري، وبناء الأجيال، وتغيير المفاهيم، والثقافات، فهي وحدها تحتاج أكثر من غيرها إلى دورات زمنية طويلة من الغراس والري والعناية بطرق ممنهجة، ذات أهداف عليا تنتج إنساناً سوياً قادراً على المضي بقامة مرفوعة، وعقل متفتح في دروب الحضارة.