عبيدلي العبيدلي
رَغْم التوقعات المغرقة في تفاؤلها بشأن انقشاع غيمة الأزمة التي ولَّدتها التطورات التي عرفتها المنطقة العربية عموما والخليجية على وَجْه الخصوص، والتي تمحورتْ حول نشوب خلافات حادة في جَسَد دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنَّ بواطن الأمور لا تبعث على الاطمئنان، وتنذر باحتمالات تطور الأمور إلى مستوى نهايات لا تحمد عقباها ولا تسر الأنظار رؤيتها.
المواطن الخليجي يتابع، واضعا يده على قلبه تخوُّفا من وصول العلاقات الخليجية-الخليجية (العربية) إلى شفير الهاوية؛ الأمر الذي من شأنه إحداث شرخ عميق في هذا الجسد الخليجي. هذه النهاية، في حال -لا قدر الله- تصاعدتْ، ستكون انعكاساتها عميقة ليس على واقع المنطقة فحسب، وإنما على مستقبلها المنظور أولا، والبعيد ثانيا.
ليس المطلوب اكتشاف ما هي القشة التي قصمت بعير العلاقات الخليجية-الخليجية، التي مهما حاول البعض التركيز على هشاشتها، تبقى في نهاية المطاف من أكثر التجارب العربية الوحدوية نجاحا وقدرة على النمو، رغم الأنواء التي واجهتها، والمخططات التي حيكت حولها من أجل تشويه التجربة قبل إجهاضها. ولقد استمدت تجربة التعاون الخليجي القدرة على الصمود والنمو بفضل مجموعة من العوامل التي يمكن إجمال الأكثر أهمية فيها في النقاط التالية:
* الخلفية الحضارية/الثقافية المشتركة؛ إذ تحكم العلاقات القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي وشعوبه، أرضية صلبة من القواسم المشتركة الراسخة الأركان، تستقي متانتها من الخلفية العربية المشبعة بقيم إسلامية مغروسة عميقا في نفوس، ومن ثم سلوك الغالبية العظمى من السكان الأصليين. هذه الخلفية تشكل في جوهرها، ومن ثم صلبها، قاعدة صلدة كثيرا ما شاهدناه تبرز في وجه محاولات النيل من المجلس أو تشويه تجربته، رافضة كل محاولات عرقلة المشروعات ذات الأفق الوحدوي، أو حتى التنسيقي في أسوأ الأحوال.
* نمط الإنتاج الاقتصادي المسيطر: فحتى قبل اكتشاف النفط، شكل نمط الإنتاج -من رعي وصيد وزراعة- هامشا مشتركا واسعا أسهم في تعميق أواصر العلاقة القائمة بين سكان حوض الخليج العربي. ثم جاء النفط، رغم اكتشافه بكميات متفاوتة، كي يضيف طبقة تماسك أخرى تعزز اللحمة الخليجية، وترسخ أوتادها، بفضل دورها الملموس في تعميق أواصر العلاقات من منطلقات جديدة، لكنها قوية، فليس هناك من قوة بوسعها أن تفرض نفسها على سلوك البشر والوشائج التي تسيرهم مثل قوانين السوق وآلياتها. ولا بد من التأكيد هنا على الترابط بين النفط ونمط الإنتاج الريعي، وهو المسير للاقتصاد الخليجي.
* الترابط الاجتماعي، والمتمثل في العلاقات الأسرية، بما فيها القبلية التي لا تزال سائدة؛ حيث تتشكل العائلة البحرينية من مجموعة قرابات تقوم على رابطة الدم والمصاهرة بين نسبة عالية من سكان الخليج الأصليين. وألفت هنا إلى أنَّ الاستقرارَ الأسريَّ في كل دولة خليجية على حدة، لم يبتر، وهذا عنصر إيجابي، أواصر تلك العلاقات، بل على العكس تماما، قوى من جذورها؛ مما أدى بدوره، إلى تشبيك واسع النطاق بين التجمعات السكانية الخليجية منذ اكتشاف النفط في أراضٍ في الثلاثينيات من القرن الماضي.
* التطور السياسي؛ فرغم التباينات الطفيفة التي تطفو على السطح، بين هذه الدولة الخليجية أو تلك، لكن ذلك لا يمس اشتراكها في جوهر هياكل البنية السياسية التي تقوم على ركائز مشتركة، لا تختلف فيها المشيخة، عن المملكة، عن السلطنة. وهذا على المستوى الداخلي، والأمر ذاته يفرض نفسه على السياسات الخارجية والعلاقات الدولية التي نسجتها الدول الأعضاء في مجلس التعاون، فالتحالفات الدولية والإقليمية تكاد تكون متطابقة، باستثناء بعض الفترات المتقطعة التي شابتها بعض التباينات غير الجذرية، مثل الفترة الراهنة.
وعليه، وطالما رصدنا عناصر "التوحيد" المشتركة التي مارست دورها الكبير في الاحتفاظ بمسيرة مجلس التعاون الخليجي مستمرة ومتنامية ولا تحرفها رياح موسمية تهب عليها بين الحين والآخر، تواجهنا علامة استفهام كبيرة تبحث عن جواب يفسر موجة الصراعات المفاجئة والمتصاعدة، التي هبت على المنطقة، ويتراءى للبعض أنها ستعصف بالمنظومة الخليجية، وربما تنجح في تمزيق نسيجها الوحدوي.
يأمل المواطن الخليجي أن تتحول كل الدلائل التي تثير الرعب في نفس ذلك المواطن بفضل ما يجري اليوم، إلى سحابة صيف عابرة لا تستمر طويلا فعناصر التوحيد الإيجابية أقوى بكثير من تلك المفتتة، ومن ثم فمن غير المنطقي، ولا الطبيعي أن تمتد لفترة طويلة، ذلك لأن تداعياتها، فيما لو لم يوضع حدا لها ستكون مدمرة، ومن الصعوبة بمكان، حينها أن تمحى آثارها، خاصة إذا ما حرص المسؤولون وصناع القرار تحديد القوى المستفيدة الأساسية من استمرار الأزمة. فلربما يكتشفون أن تلك القوى المتربصة، وذات المصلحة المباشرة في أن يتهاوى بنيان مجلي التعاون، هي التي تغذي مثل هذه الخلافات الطارئة وتسكب الزيت على نيرانها، كي تؤججها مهما كانت ضعيفة.
ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الفطنة والدراية كي يكتشف أن أول المستفيدين ومتصدري قائمتهم هما: إيران وإسرائيل، اللتين مهما بلغت أشكال الصراعات المعلنة بينهما، يحكمهما هدف إقليمي مشترك، يقوم على إضعاف مستمر لقدرات أية دولة عربية. ويترافق مع ذلك إجهاض مسيرة أي شكل من أشكال العمل الوحدوي العربي، بغض النظر عن هشاشته. لا يقصد من ذلك وضع تل أبيب وطهران في سلة واحدة، أو الدخول في متاهات إثبات أو عدم إثبات وجود تنسيق بينهما، فالحديث هنا ينطلق من وجود تطابق موضوعي لمصالح مشتركة بعيدا عن النوايا أو المقاصد.
وبالقدر ذاته، ليس المراد هنا إلقاء اللوم على أي من القوى الخارجية، فمن يمسك بزمام الأمور هم أبناء الخليج وليس سواهم.
المواطن الخليجي، يتضرَّع إلى ربه آملا أن يكون ما يراه وما يسمعه، لا يعدو كونه سحابة صيف عابرة، لا تلبث أن تنقشع من سماء مجلس التعاون، كي تعود المياه إلى مجاريها، ويواصل مجلس التعاون مسيرته المصحوبة بالنمو، والمدججة بسلاح الوحدة.