الحِرْفة.. سلاح بيد صاحبها

 

 

علي المعشني

تحدَّثتُ في مَقَالي السابق عن عبودية الوظيفة؛ فمهما بلغتْ مراتب الموظف ومسمياته وامتيازاته الوظيفية، فإنَّه يبقى في النهاية مُجرَّد إنسان أجير لهذه الجهة أو تلك، وفق عقد وشروط لا يستطيع التنصُّل منها أو الإخلال بها. وتبقى حرفة الإنسان منجاة له وقيمته في الحياة، على اعتبار أنَّ قيمة الإنسان الحقيقية فيما يتقنه وفيما يفكر به.

في تونس، وفي العهد الملكي بالتحديد، حين كانت تونس تحكم من قبل السلاطين العثمانيين والمعروفين بالبايات، كان من شروط تنصيب ولي العهد أن يتقن حرفة ويزكيه عدد من الحاشية بإتقانه لتلك الحرفة لتولي المنصب، والحكمة من ذلك هي وقاية صاحبها من تقلبات الدهر ودول الأيام.

وكان الباي محمد الأمين آخر سلاطين تونس؛ حيث قضت الجمهورية بقيامها عام 1956م على حكمه، وصادرت جميع أملاكه ونفته إلى القيروان في حالة شبيهة بالإقامة الجبرية. كان الباي محمد الأمين قد احترف مهنة تصليح الساعات قبل تنصيبه وليًّا للعهد، وبعد إعلان الجمهورية ونفيه من تونس العاصمة للقيروان كان يستغل وقت فراغه على دكة جامع عقبة بن نافع الشهير بالقيروان ما بين أوقات الصلوات العصر والمغرب ويقوم بتصليح الساعات وبيعها للناس حيث كانت مصدر رزقه الوحيد إلى أن توفاه الله.

لا شك أنَّ الحياة مليئة بقصص وعبر كثيرة لزوال عروش وأملاك وثروات طائلة من أصحابها وتداولها بين الناس كسنن معروفة ومتوارثة، ولكن ما يستوقفني دائمًا في قصة الباي محمد الأمين وأسلافه هو مدى قناعتهم بعرف العائلة المتوارث بضرورة إتقان حرفة تقيك من تقلبات الدهر وغدره، ومدى قناعة الباي محمد الأمين شخصيًّا حين أتى الدور عليه لولاية العهد، وحين يتذكر زوال عرشه وعرش أجداده ونفاذ بصيرتهم واحتكامهم لسنن الحياة ودول الأيام؛ حيث لم يبقَ للسلطان سوى حرفته "ساعاتي" يقتات منها وتصون كرامته الإنسانية.

الكاتب والأديب والمفكر السوري جودت سعيد يحمل الشهادة الجامعية من جامعة دمشق منذ الستينيات من القرن الماضي، ورفض الارتباط بالوظيفة وفضل العيش في الضيعة بريف دمشق، حياة بسيطة بدائية بلغة اليوم، ولكنها بدرجة الخمسة نجوم لمن هم في مرتبة النساك وأصحاب الفلسفات والقناعات الخاصة من أمثال الأستاذ جودت سعيد.

فقد اختار الأستاذ جودت تخصيص قطعة أرضه البسيطة في الضيعة بريف دمشق لزراعة بعض الأشجار المثمرة وتخصيص مساحات صغيرة للزراعات الموسمية مع بقرة حلوب على الدوام ومنحل صغير للعسل، وعدد لابأس به من أنواع الدواجن حيث اختار هذه الحياة بكل قناعة، ويعيش من الاكتفاء وبيع العسل وفائض مزروعاته فقط لا غير. ويعكفُ على القراءات والفكر والكتابة والتأليف وحضور المنتديات والمؤتمرات في أيِّ مكان في العالم، وحيث ما تقدم له من دعوات فهو لا يتردد. اختبرت قناعة الأستاذ جودت وفلسفته في زهد الحياة وبساطتها مرارًا بعد أن بلغت شهرته الفكرية ومؤلفاته الآفاق؛ حيث عرضت عليه مناصب ووظائف مجزية للغاية إدارية واستشارية، ولكنه رفضها كعادته ومن واقع نظرته وفلسفته للوظيفة وفضل حياة الضيعة البسيطة في دخلها وتفاصيلها، والتي ترقى به كمفكر عميق إلى مصاف أناس من مراتب لا يعلمها الكثير إلا من أدرك ووعى حياة النساك والأصفياء من عباد الله.

يُحدِّثني صديق زار الهند في الثمانينيات من القرن الماضي عن مصادفته لشباب هولنديين وتعرفه عليهم حتى أصبح بينهم شيء من مودة السفر وصداقته. يقول: "صديقي، ما أدهشني هو أنَّ هؤلاء الشباب الأربعة جميعهم شركاء في ورشة تصليح سيارات في هولندا، وأنهم غاية في الانسجام العملي والفكري، حيث قرروا ومنذ بداية شراكتهم أن يعملوا بجد لمدة عام كامل في الورشة ثم يقررون السفر حول العالم لعام كامل وفق ميزانية ادخار دقيقة ثم إنفاق أدق".

فعام العمل لهؤلاء الشباب، يعني رواتبهم مع اقتطاع جزء من الدخل للرحلة، وبعد استيفاء العام يكون مخطط السفر وموازنته جاهزين للتنفيذ، فيتم إغلاق الورشة والسفر حول العالم واكتشاف عوالم جديدة لمدة عام كامل...وهكذا.

----------------------------------

قبل اللقاء: يقول عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي: "نحن لا نهرب للماضي لجماله، بل لبشاعة الحاضر".. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com