مدرين المكتوميَّة
الحبُّ يَصْنع المعجزات، وكذلك يَصْنع التغيير، ولكنه أيضا يَجْعَل الكثيرَ من المحبِّين يُقدِّمون تنازلات كُبرى لأجل من يُحبُّون، حتى وإنْ كان ذلك لا يتماشى مع مُعتقداتهم وأفكارهم ومبادئهم، وربما دياناتهم أيضا؛ فهناك من يُشْهِر إسلامه من أجل الارتباط بمن يحب أو تحب، وهذا أمرٌ محمودٌ، لكنْ أصبح هناك مَسْكُوت عنه وهو من يرتضي الخروج من إطار الإسلام فيهاجر ليعيش مع شخص من غير المسلمين، وهناك الكثير من التجاوزات التي تحصل في مثل هذا الإطار. ولأننا يجب أن نتحدث بشفافية أكثر، فعلينا أن نعترف بأنَّ هناك الكثيرَ من التجاوزات التي تَطَال الانتماء الديني والمذهبي؛ حيث تجد من يتخلَّى عن دينه لأجل من يُحب، وهناك مَنْ يَدْفَع حياته بأكملها ليرسِّخ دينه في قلب أحدهم ويدعوه لاعتناقها، وما بين هذا وذاك، هُناك من يُفضِّل -بمحض إرادته أو إرادتها- أن يُضحِّي بمشاعره وحبه عندما يضطر للاختيار.
وفي هذا الشأن، كُنتُ قد قرأتُ مُؤخَّرآ كتابا بعنوان "في قلبي أنثى عبرية"، للكتابة الدكتورة خولة حمدي، والتي تناولت فيه الكثير من المفاهيم عن الحب والارتباط والجهاد والتمسك بالمعتقدات، حتى وإنْ انعدم الإيمان بها، كما تناولت الزواج من مختلف الدين وتناولت الموت والحياة، والإصرار على الحفاظ على الأمل، واختيار الشريك، ولكنها تناولت أمرا بالغ الحساسية وهو "الحب ما بين المسلم واليهودي"، وكيف لمسلم أن يهدي حبيبته اليهودية إلى دينه بدافع الحب، ولكنها تعتنقه بدافع الإيمان بعد الانغماس الطويل في التعرف على الدين الإسلامي وتحليل آيات القرآن ومعانيه.
وفي الكتاب، بدأتْ العلاقة بنظرة حب واكتشاف بعض القواسم المشتركة بينهما، إلى أنْ وَصَل الأمر لطلبه الزواج منها رغم الاختلافات في الأديان والمعتقدات، ويُجسِّد أبطالُ الرواية الكثيرَ من القيم النبيلة؛ فأحمد وندى يُقدِّمَان الكثيرَ من التضحيات، كما تظهر قيمة الإيثار التي تحلى بها حسان، وبالفعل قدَّمت د. خولة رواية جميلة ورائعة تحمل في طياتها قبل السرد فكرة ترسيخ قيم الدين الإسلامي بأسلوب إنساني، وجسَّدت في كل شخصيات روايتها أسمى المعاني التي يُمكن أنْ يظلَّ الإنسان حتى في العصر الحالي يتمسك بها، وتمكنت من طرفٍ خفيٍّ أن تُعزِّز قيمة الإسلام، وتؤكد بشكل غير مباشر على أننا يُمكننا أن نحيي القيم الإسلامية النبيلة في نفوس من نُحب، لنستطيع أن نتدارك وقوعهم في المعاصي أو موتهم دون النطق بالشهادتيْن.
ومما خرجت به الرواية أيضًا أنَّه وعندما يقع الإنسان في الحب، فإنَّ مَشَاعر الرَّغبة في الحفاظ عليه، وإسعاده، تتواكب مع مشاعر الخوف على المحبوب من كل شيء حتى من نفسه، ويُمكن للخوف أنْ يخدش مشاعر المحبوب أو يُؤلمه بكلمة أو بموقف غير مقصود أنْ تجعل المحبَّ يتواري خلف الصمت حتى عن البوح بآلامه لكي لا يُؤلم محبوبه. ولأنَّ الحبَّ نعمة جميلة، فإننا شئنا أم أبينا -إن لم نَسْعَ لها- فإننا نسعد بها حين تأتي، ويبدأ كل مُحب بطقوسه وطريقة حياته في تَعْمِيق علاقته مع الطرف الآخر، والتي تبدأ من تغيير السلوكيات عند اللقاء، وتنتهي بالارتباط الحقيقي وهو الزواج وتكوين أسرة.
وكما يعلم الجميع، أو على الأقل مَنْ جرَّب الحب، فإنَّ كلَّ شيء قابل للتغير والتفكك والتجديد؛ فالحب حين يَطْرُق البابَ يأتي كرياح عاتية تخلِّف خلفها دمارًا شاملًا، فتخور قوى الشخص ويجد نفسه يستجيب لكل ما حوله، ولطلبات محبوبه. وبالطبع هذا لا يحدث في جميع الحالات، لكنْ دَعُوْنَا نقول إنَّ الأغلبية تتغيَّر حياتها مع دخولها في حالة حب، وتلك التغيُّرات رُبَّما تصلُ -كما تطرقت إلي ذلك د. خولة- إلى حتى تغيير الدين. ولولا هذا، ما رأينا الكثيرَ من الأجانب يعتنقون الدين الإسلامي بسبب حُبِّهم لمعتنق الإسلام، ولكن يحدث أيضاً أنْ يصل الأمر بمسلمين إلى أن يرتُّدوا عن دينهم ويعتنقوا ديانة أخرى، بل ونسمع عن آخرين ألحدوا، ووراء ذلك كان البحث عن استرضاء المحبوب أو على الأقل يكون ذلك هو الباب الذي أوصلهم إلى ذلك المصير.
ولأنَّني قرأتُ الكتابَ، وعاودت قراءة بعض صفحاته من جديد، فقد أيقنتُ أنَّ للحب طاقة قاهرة يُمكنها أنْ تُغيِّر حياة الإنسان وتهديه لطريق سليم، ويُمكنها أن تَصْنَع الفارق والمعجزات في كثير من المواقف. ولأنَّني كُنتُ قد وقفت عند كلمة "الإيمان" وهي الكلمة السحرية التي يُمكنها أن تقلب موازين الحياة بأكملها، كان لابد من التمسك بالإيمان وذكره دائمًا لمن نُحب، فمن آمَن بالشيء لن يتخلَّى عنه مقابل أي معتقد ومبدأ دخيل قد يأتيه من طرف آخر. وحتى يكون الإيمان خالصًا، علينا أن نهتمَّ بالنوايا التي تسيطر علينا، ونجعلها دائما خالصة لوجه الله؛ فالنوايا الحسنه تجلب للشخص كلَّ ما يُرِيد ويتمنَّى، وتكافئه بالأفضل دائما، حتى وإنْ كان عكس رغباته، والعكس صحيح مع النوايا السيئة؛ فعسى أنْ نكون مُؤمنين حاملين النوايا الصافية في دواخلنا، ليعطينا الله الأفضلَ دائما.