عبيدلي العبيدلي
في الرياضيات هناك ما يُعرف باسم "المسلسلات"، أو المتتاليات". وهي أنواع منها المُتقارب، والمتباعد، إلى جانب اللانهائي. والرياضي الحصيف هو ذلك الذي يستطيع أن يعرف النهايات التي تؤل إليها المتوالية المعنية قبل أن يغرق، ومن يثم يتوه، في دهاليز معرفة تلك النهايات.
الأمر كذلك بالنسبة للسياسي المُحنك، فهو الآخر غالبًا ما يجد أمامه مجموعة من الخيارات، التي عليه أن يدرسها تمامًا كالرياضي، كي يستقرئ، بشكل علمي متزن، النهايات التي سيقوده لها ذلك الخيار، هل هي متقاربة، بل ومتطابقة مع الأهداف التي يسعى لتحقيقها، أم أنها متباعدة، أم أنها ستقوده إلى مصير لا نهائي يصعب التكهن بمواصفاته.
وتمامًا كما يفعل الرياضي، الذي عليه أن يتمعن بعين فاحصة، وذهنية متفتحة حين ينظر إلى تلك المتتالية أو الأخرى، كذلك السياسي عليه أن يسبر أغوار المشهد السياسي من زواياه كافة كي يتمكن من قراءة حاضره على نحو سليم، ويستقرئ مستقبله بشكل واضح، وجلي.
وتختلف، بطبيعة الحال أدوات الرياضي وأساليبه عن نظيره السياسي، لكنها تتطابق معها من حيث استخدامها للمنطق، وقراءتها الشمولية بجميع العناصر المؤثرة، سواء في المتتالية الرياضية، أو في المشهد السياسي.
ولكي يستخدم السياسي أدواته على نحو مبدع متجدد، ينبغي له، عندما يحاول أن يقرأ المشهد السياسي الذي يعمل فيه، كي يتمكن من الفعل فيه بما يخدم أهدافه السياسية، ويحقق مراميه، بأقل الخسائر الممكنة، وأفضل النتائج المجزية أن يلتزم، تماماً كما الرياضي، بقوانين العمل السياسي، وأحكامه ونظمه. والتي يمكن أن نوجزها في المقاطع التالية:
- جمع أكبر كمية ممكنة من المعلومات الصحيحة المُستقاة من مصادرها الأصلية، قدر الإمكان، ذات العلاقة بالقرار الذي سيتخذه، ومن ثم الخطوة التي سيقدم عليها، والطريق التي سيسلكها. وصواب القرار يتناسب طردياً مع درجة صحة المعلومات وسلامتها، وخلوها من الشوائب التي تشوهها وتقود صاحبها إلى قرارات خاطئة، ربما تكون مدمرة على الحركة السياسية في فترة معينة. ولضمان سلامة المعلومات ونقاوتها ينبغي التيقن من صحة نوايا من يجمعها، وكفاءة من يتولى تحليلها.، تحاشياً لأيّ لبس أو سوء تدبير، يمكن أن يؤدي إلى طرق مسدودة، أو يمر بمنعطفات خطيرة، تشوه القرارات المتخذة، إن لم تسئ إلى صاحبها.
- رفض الاستنتاجات المستخرجة من التأويلات، وتلك القائمة على الافتراضات غير المسبوقة بجمع المعلومات الضرورية التي لا يستغني عنها أصحاب القرار. وتعلمنا دروس التاريخ أن هناك الكثير من القرارات السياسية بما فيها تلك الاستراتيجية، اكتشفت أخطاؤها، بسبب اتخاذها في ظروف تعذر فيها الحصول على كمية المعلومات الضرورية التي تعين أصحابها على اتخاذ القرار السليم، في الوقت المناسب. وهنا تجدر الإشارة إلى التمييز بين ما هو ثمين من المعلومات وما هو غث. بل ينبغي عدم استبعاد ترويج الخصم لبعض المعلومات الخاطئة كي يتلقاها صاحب القرار وتقوده إلى مسالك لا نهائية، تماماً كالمُسلسلات اللانهائية.
- تحاشي العواطف، وتقليص نفوذها على صاحب القرار، فسلامة ذلك القرار رهن بتدني نسبة تأثير العواطف على صاحبه. فكما هو معروف أنَّ العواطف آنية، ومتذبذبة، وعلاقتها في غاية الضعف بالعلمية والموضوعية. ومن هنا، فكلما تراجع حضور العواطف لدى صاحب القرار كلما زاد اقترابه من القرار الصحيح المطلوب. ليس المطلوب هنا التحول إلى آلات بشرية صماء، بقدر ما يقتضي الأمر التحكم في العواطف كي لا تكون هي العنصر الأساسي، المؤثر، سواء عند تقويم مصادر المعلومات، أو في فترات جمعها، أو عند الوصول إلى قرارات مبنية عليها.
- تقويم موازين القوى في الساحة المعنية، فاتقاد ميزان دقيق يتولى ذلك يفقد صاحب القرار التمييز بين المرحلة السياسية التي يمر بها المجتمع المعن. فأدوات العمل السياسي في موازين قوى معينة يختلف جذريا ونوعيا عن ذلك الذي يتخذ في مرحلة أخرى. وأهم عنصر مؤثر في معادلة العمل السياسي هو ثقل كل عنصر من العناصر الضالعة فيه. فموازين القوى تحدد السياسات بما فيها اختيار الهجومي منها من ذلك الدفاعي. فلكل منهما قواعده التي تساهم سلامة الاقتراب منها أو الابتعاد عنها بالتقدير الصحيح لموازين القوى. وموازين القوى، خاصة في هذه المرحلة من تطور العالم، الذي تحول إلى ما يشبه القرية الصغيرة، بفضل التطور الذي أفرزته ثورة الاتصالات والمعلومات من جانب، وجراء الدخول في مسارات العولمة، بقوانينها التي باتت تفرضها على الدول الصغيرة، دون رحمة أو استثناء، من جانب آخر.
- فهم ناضج لطبيعة التحالفات، أو تحديد درجة الخصومة وشدتها، وهما أمران متلازمان ويكمل بعضهما البعض. فالإخفاق في إدارة دفة التحالفات بشكل مرن، يفقد القائد السياسي نسبة كبيرة من القوة التي هو في أمس الحاجة لها. والأمر ذاته ينطبق على تقدير درجة الخصومة. أي انزياح، مهما كان طفيفاً عن التقدير السليم الدقيق لأي منهما يقود إلى نهايات مدمرة، ويضع العمل السياسي أمام متتاليات سياسية لا نهائية. ولا بد من التنويه هنا إلى أنه في العمل السياسي ليس هناك ما هو سرمدي سواء في خارطة التحالفات، أو في مسالك الخصومات، فهي في تغير مستمر، والقائد الحصيف هو من يمسك بزمام الجياد التي تقود كل منهما.
عليه، فالتعامل مع مُعادلات عمل السياسي، لا تختلف، في جوهرها، عن معادلات العلوم الرياضية. فكما تحتاج هذه الأخيرة إلى رياضي لمَّاح، تتطلب الأولى قائدا حذقا قادرا على فهمها من خلال وصوله إلى معلومات صحيحة عبر أدوات دقيقة، كي يضع قراراته بعيدا عن أية عواطف طارئة، تتحكم فيها تحالفات غير ثابتة، وتسيرها خصومات سابقة.
وكما أن الرياضيات فن وهي أم الفنون، فالسياسة فن، وكلاهما بحاجة إلى ذهنية فنان مبدع مبتكر، وليس إلى عقل جامد متحجر، هذا لمن شاء أن يبحر في اتجاه التيار، لا السير في طريق معاكسة له.