الأبعاد الحضارية للمؤسسات الوقفية

 

د. محمد الحجري

 

يُعد الوقف برهاناً على قدرة الإسلام على نقل الروح العربية الفردانية من تمحورها حول ذاتها إلى التفكير في غيرها وتجاوز الأثرة وإسداء الخير للآخر أكان فردا أو مجموعة، وهو كذلك برهان على عناية الإسلام بتأسيس منظومة العمل الخيري القابلة للاستدامة، كما تبرهن الأوقاف في ذلك الوقت على تحضر المُجتمع وقدرته على تنظيم نفسه وعلى إطلاق المبادرات الاجتماعية ذات النفع العام وتطويرها، وبناء مؤسسات أهلية تمتلك شخصية اعتبارية، هذا من حيث الأصل أما من حيث الممارسة فقد توسعت مشتقات الوقف وأنواع مُبادراته سواء في أشكال الأصول التي يتم توقيفها أو في المصارف التي تتجه لخدمتها تبعاً لحاجة المجتمع ومنافعه العامة، وقد مرَّت حقب تاريخية كان الوقف فيها هو العماد الأول في رعاية التعليم والمتعلمين، وفي إبقاء بعض مرافقه الخدمية قائمة بوظيفتها ومهمتها بعد تأسيسها، ولذلك وجدنا أن تأسيس المرفق العام هو الخطوة الأولى ولا يضمن إدامته إلا بوجود وقف يمده ويبقيه، وقد أبدع العمانيون على امتداد تاريخهم في إيجاد هذه المُشتقات والأنواع الوقفية، فعلى سبيل المثال قدمت عمان نوعاً فريداً من أنواع الوقف هو الأوقاف المائية التي تكون من الحصص المائية في الأفلاج (الآثار)، والتي توجّه لخدمة الفلج نفسه، أو لمصارف أخرى منها ما يتعلق بالتعليم أو بمصالح المجتمع ومرافقه العامة كالمدارس والمساجد والمجالس العامة والمقابر وموارد الماء وغيرها، وإيجاد مثل هذه المنظومة الوقفية تجلٍ ساطع للروح الحضارية التي بثها الإسلام ورسخها، فهذه المرافق مع كونها أبنية وهياكل هي في ذاتها مؤسسات لا تنشأ إلا في مجتمعات مُتحضرة قادرة على تنظيم نفسها وبناء مرافقها العامة وتزويدها بالقدرة على البقاء.

ومع تغير وجه الحياة واختلاف طبيعتها وتعدد أوجه النشاط الإنساني كان لابد من خطوة تتمحور في إعادة مأسسة العمل الوقفي وفق نسق حديث قابل للاستدامة موجه لخدمة المجتمع محتفظاً بروحه الخيرية المرتبطة بأصوله الإسلامية من ناحية، والمؤطر نظاماً وقانوناً واستثماراً ورقابة من ناحية أخرى، كما أنه بهذه الصورة الحديثة يتساوق مع ما عرف في الاقتصاد الحديث بــ "المسؤولية الاجتماعية" للشركات والمؤسسات الخاصة، من خلال إيجاده نوافذ توجه إليها مواردها المخصصة للمسؤولية الاجتماعية فاتحاً لها باباً خيرياً قابلاً للديمومة والتوسع.

إنّ مُبادرات العمل الخيري في ذاتها برهان على استقرار وتمكن روح الخير في حياة المجتمع الذي ينتجها وعلى وجود مجتمع حي تستيقظ ضمائر أفراده وتتخلى عن التمحور حول الذات والأنانية، وهو سبيل لنجاح وفلاح الفرد والمجتمع "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وهذا لم تخل منه المجتمعات الإسلامية على امتداد تاريخها، ولكن مأسسة العمل الخيري في نموذجه الوقفي من جديد سوف ينهض بهذه المهام التي يقوم عليها الوقف في رعاية المصالح الاجتماعية، وسوف ينقلها من النماذج التقليدية إلى نماذج أكثر قدرة على البقاء والتأثير والتوسع.

 

 عضو مجلس الشورى، ممثل لاية بدية

تعليق عبر الفيس بوك