غرائب وعجائب تاريخ هيرودوت

 

 

أحمد الرحبي

حول ذكر أفعال الرجال وتخليد مآثرهم إغريقا وبرابرة وتوثيق أفعالهم المجيدة، كانت أبحاث هيرودوت الهاليكارناسي فوضع بذلك هدفا لتأريخه وهو وصف أعمال لن تنساها البشرية أبدا، كما يرد في مقدمة تاريخ هيرودوت والذي يقدم خطته في رواية الأحداث في تاريخه وعرضها راويًا.. قصص المدن الصغيرة والكبيرة سواء بسواء، ذلك أن ما كانت مدنًا زاهرة ذات يوم غدت صغيرة ذاوية الآن في نظر أبو التاريخ، كما أن المدن الصغيرة قديما باتت حواضر زاهرة في أيامه، فبدا حريصا في تاريخه أن يولي الكبير والصغير اهتمامه..

إلا أنّ القارئ لتاريخ هيرودوت الذي يفرد صفحاته لعالم واسع فسيح مترامي الأطراف يشمل العالم المعروف آنذاك وما وراءه من القرن الخامس قبل الميلاد، ويعرض لتاريخ الأقوام المتعددة فيه ويرصد أعمالها وآثارها، يعيش مع أبو التاريخ لحظات من الإمتاع مع الحكايات العجيبة والغريبة التي يوردها في تاريخه والذي كان شغله الشاغل طوال فترة طويلة من عمره بلغت الثلاثين سنة قضاها في استقصاء أخبار الأمم وأحوالها والحروب التي خاضتها، ففي خضم هذا التاريخ الذي يرويه هيرودوت، تطالعك الحكايات العجيبة والغريبة التي تبلغ حدود الخرافة والأسطورة.

ففي تاريخ هيرودوت نجد من عجيب الحكايات والأساطير ومن غريب العادات التي يرويها الكثير، بعد سماعه لها مروية ومتداولة على ألسن بعض الرواة من الرحالة والمسافرين الذين يلتقيهم في طريقه، فينقل مثلا ضمن هذا السياق من العجائبية في رواية تصف شمال القارة الأوروبية وهو موطن واحد من الشعوب الذين حفظ ذكرهم في تاريخه وهم شعب السكيث بأنّ الريش يملأ الجو هناك، ذلك أن الجو والأرض يبدوان وكأنهما مغموران بالريش وهي لاشك إشارة طريفة إلى ندف الثلج، ويورد عن هذا الشعب وصفا شيّقا لإحدى عاداتهم في حلب أفراسهم، حيث يقحم السكيثيون في شرج الفرس أنبوبا من العظم له شكل الناي، ثم يقوم أحدهم بالنفخ فيه، بينما يتولى آخر حلب أثداء الأفراس، مقصدهم من ذلك تضخيم العروق في جسد الفرس بقوة الهواء فيسترخي الضرع ويدر الحليب كما يوضح هيرودوت. 

ومن أغرب الروايات التي ترد في تاريخ هيرودوت، تلك التي تتعلق بالأفاعي الطائرة التي تغزو مصر وهي صغيرة الحجم وذات ألوان عديدة وتتواجد في أسراب هائلة كما يصفها هيرودوت، والذي نكتشف في الأخير إنّه يعني الجراد الذي يحدد موطن انتشاره في بلاد العرب الذين أسهب هيرودوت في وصف مناقبهم في تاريخه.

ومن غرائب عادات الشعوب التي يوصفها هيرودوت في كتابه يقول أنّ شعب المسجاتيين لهم طريقة واحدة في اختيار الموت، فعندما يشيخ الرجل ويغدو عجوزا يجتمع أهله ويقدمونه في طقس بين الذبائح، ثم يعمدون إلى سلق اللحم ويتناولونه، ويرون في ذلك أفضل ميتة.

ويوصف هيرودوت بعض عادات الفرس بقوله والطفل لدى الفرس يعيش بين النساء ولا تقع عليه عين أبيه عليه قط قبل الخامسة، لئلا ينزعج الوالد إذا مات الابن، وما هو محظور فعله عندهم محظور أيضا الحديث فيه قولا، والكذب في مذهبهم أكبر الكبائر، ويأتي الدين بعده في التحريم بسبب أنّ الدين يورث الكذب، ويضيف أنّ الفُرس يُجلِّون الأنهار أشد الإجلال، فلا تجدهم يلوثون نهرا بالتبول أو البصاق فيه، بل ولا يغسلون أيديهم بمياهه أو يسمحون لأحد بذلك، والرجل الفارسي لا يدفن إلا بعد أن ينهش جثته طير أو كلب.

أمّا عن المصريين فيقول: هم يعجنون الدقيق بأقدامهم ولكنّهم يستخدمون اليدين في خلط الطين بل وفي حمل التراب وقذر الحيوانات، ويعتبر المصريون الثيران من ممتلكات الإله أبافوس (ابيس الإله الثور) ولذلك نجدهم يقومون على فحصها بكثير من العناية، وهناك كاهن يختص بالبحث في شعر الثور، فإذا وجد شعرة سوداء واحدة، استُبعد لنجاسته، والمصريون لا يأكلون مطلقا رأس أي حيوان، ويضيف يعتبر المصريون الخنزير حيوانا نجسا، حتى أنّ المرء إذا مسه هذا الحيوان، ولو مسا خفيفا، أو عرضا، هرع إلى النهر ليغطس فيه بكل ما يرتدي.

ونأتي إلى وصف هيرودوت للعرب في كتابه، حيث يقول معددًا مناقب العرب، ما من أُمة تحترم العهود وتقدسها مثل العرب، فإذا أراد رجلان أن يوثقا العهود بينهما فإنهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حجرًا حادًا يستخدمه لجرح راحتي يديهما بالقرب من أسفل الإبهام، ثمّ يأخذ بعض خيوط الصوف من ثيابهما ويغمسها بدمهما ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما، وحسب ما يذكر هيرودت في كتابه فإن كل شعوب آسيا، قد دانت لقورش وقمبيز الملكين الفارسيين بفضل فتوحاتهما، باستثناء العرب الذين لم يدخلوا في طاعة الفرس ولم يدينوا لهم بالولاء بوصفهم تابعين أو أرقاء، بل أصبحوا لهم أصدقاء عندما سمحوا لقمبيز بالمرور إلى مصر لأنّ الفرس لم يكن في مقدورهم غزو مصر ضد إرادة العرب.

ويوصف هيرودوت في كتابه عادات الهنود، الذين قال عنهم بأنّهم القوم الأكثر تعدادا في العالم المعروف، بأنّ من عاداتهم إذا أصيب أحد الرجال بمرض ما أن يقوم أصدقاؤه المقربون بقتله، ويبررون ذلك بأنّ لحمهم سيفسد إذا ما تركوا الأمراض تضعفهم، لذلك مهما حاول المريض أن يؤكد لهم بأنّه سليم فإن أصدقاءه يرفضون تصديقه، بل يقدمون على قتله ويقيمون مأدبة في هذه المناسبة، وإذا كان المريض امرأة فإن صديقاتها يسلكن تجاهها ما يسلكه الرجال تجاه صديقهم، لذلك إذا ما مرض أحدهم فإنّه يترك أصدقاءه ويرحل بعيدا إلى مكان مهجور ليموت هناك دون أن يأبه بمرضه أو بموته.

ومن الغرائب التي يرويها هيرودوت في كتابه؛ اجتماع سكان بابل على خنق جميع نساء المدينة، بقصد تقنين الغذاء، وقد سمح لكل رجل بأن يستثني أمه، ومن يختارها من أهل بيته لتخبز له، لقد ترجم هذا السفر القيم وصدر ضمن منشورات المجمع الثقافي بأبوظبي.