د. صالح الفهدي
يُروى أن أحد مسؤولي الإنشاءات كان يتجوَّل في موقعٍ كبيرٍ للبناء في نطاقِ إشرافه فشاهد ثلاثة عُمالٍ يكسرون حجارة صلبة، فاقتربَ من العامل الأوَّل وسأله: ماذا تفعل؟ فأجابه: أكسرُ الحجارةَ كما طُلبَ مني، فتركه ليسأل العامل الثاني السؤال نفسه فقال: أقصُّ الحجارة بأشكالٍ جميلة ومُتناسقة، فذهبَ إلى العامل الثالث ليسأله ذات السؤال فقال: ألا ترى بنفسك، أني أبني ناطحة سحاب؟!.
هذه قصّة رمزيّةٌ مشهورة إنّما الشاهدُ منها أنَّ المفاهيم العليا قد فُقدت في العاملين الأوَّل والثاني، فالأوّل رأى نفسه مجرّدَ عبدٍ يُؤمر فيُطيع، أمّا الثاني فلا يرى إلاَّ في نطاقِ اهتمامهِ الشخصي، في حين أنَّ العامل الثالث قد رأى نفسه وهو يُسهم في بناءِ وطنٍ بما يملكُ من علوِّ نظرةٍ، وصدقِ طموحٍ، وإرادةِ نفس .
تضيعُ المفاهيمُ العليا في تعاملاتِ النّاسِ، ومصالحهم وخدماتهم، فتحلُّ محلّها السلطةُ والنفوذُ والتعاملُ مع الآخرِ وكأنّهُ مأخوذٌ على جريرةٍ، أو مرتكبِ ذنبٍ، أو مجرّد طالبِ حاجةٍ.. تتلاشى المفاهيم العليا من موظّفٍ يمارسُ ما يحوزُ من سلطةٍ وإن كانت محدودة لكنّها كافية لتودّدِ الآخرِ إليه..! ومن محاسبٍ لا يرى فيك وأنتَ تجرُّ عربةَ التبضّعِ إلاّ مجرّدَ نقودٍ فيجرّدكَ من إنسانيتكَ، حتى أنّه لا يأبهُ بالردِّ على سلامكَ أو شكركَ لأنّه قد فَقَدَ المفاهيم العُليا..! ومن مُخالفٍ لا يرى فيكَ إلاّ مذنباً يستحقُّ أن يُعاقبَ لقاءَ ما فعلهَ من خطأٍ يسير..! ومن مفتّش لا يرى في مهمّتهِ إلا حصاد السلبيات التي يعيقُ بها مشروعكَ كي لا يقومَ فتحقق النجاح..!
أمّا الموظّف فإنه فَقَدَ المفاهيم العليا التي تربّعت على عرشها مصلحةُ الوطنِ، وتلتها تبعاً خدمة المواطن، وهو في هذا خادمٌ للوطنِ لا سيّدٌ على المواطن..! المحاسبُ هو الآخر فَقَدَ المفاهيم العليا إذ نظرَ إلى الإنسان على أنّه مجرّد متبضّعِ سلعةٍ وقد غابَ عنه أنّ هذه النظرة هي تحقيرٌ للاقتصادِ برمّتهِ، وتخسيرُ للتجارةِ بأكملها، لأن الاقتصادَ قائمٌ على مدى القدرةِ على صنعِ علاقةٍ دائمةٍ مع الآخر، وتقديمِ خدمةٍ ذات جودةٍ عالية، ولأنَّ التجارة مؤسسةٌ على فنيّات التعامل مع البشر لا معاملتهم دون تمييزٍ عن الأشياء..!! أما المخالفُ فهو صاحبُ النظرِ المحدودِ الذي لا يرى في المواطنِ رمزاً ذا قيمةٍ حينَ يخالفه، وإنّما وسيلةً ترفدُ الخزانةَ بمالِ المخالفات، ويرى فيهِ رقماً يضيفه إلى القائمة التي ينشرحُ قلبه ابتهاجاً بكثرةِ أسمائها حين يقابلُ بها مسؤوليه..!! المفتشُ أيضاً لا يرى غيرَ في المشروعِ الوليدِ أبعدَ مما تسطّره اللوائحُ التنفيذية التي لا تتواكبُ مع حِراكِ العصر، وتغيّراته المتسارعة، هذا النظر المحدود لن يدفعهُ إلى البحث عن المحاسنِ في كلّ مشروعٍ من شأنهِ أن يرفد الوطنَ، ويحسّنَ معيشةَ المواطن، وإنّما عن كل عثرةٍ، ونقيصةٍ، وعيب.
لقد أعجبني موقفُ رئيس إحدى المصالحِ الخدميةِ حين تلقّى شكوى من مواطنٍ أزعجهُ تصرّفاتِ مفتشي جهتهِ وطريقتهم غير المتسقةِ مع المفاهيم العليا وذلك بأن قرّعهم على فعلتهم، ولامهم على طريقتهم، ولم يحاول-كما يفعل الأغلبية- مداراتهم وتبريرِ سلوكياتهم على حسابِ الوطنِ، وقيمةِ المواطن، بل إنه طلبَ توعيتهم وتثقيفهم ليعووا الأهداف العظيمة التي عليهم إدراكها.
إن كلّ جهةٍ سواءً كانت حكومية أو خاصةً عليها واجبُ عظيم في غرسِ المفاهيم العليا لموظفيها فالأغلبية الساحقة لا تدركها، وإنما تدفعها كل سلطةٍ تنالها إلى ممارسةِ أقصى ما تملك من نفوذٍ على الآخر وهذه هي طبيعةُ الإنسان حين لا يجدُ ما يهذِّبُ نظرته، ويعقلُ سلوكياته، ويصقلُ أخلاقياته..! الموظف الذي يبطِّيء حركة الإجراءات تقاعساً منه وتكاسلاً لا يُدركُ بأنه يعطّلُ وطناً بأكملهِ، وأنّه يمارسُ الفسادَ الذي يتّهمُ به غيره..! والقاضي الذي لا يحرّكُ القضايا إهمالاً منه وتقصيراً لا يعي بأنه يسيءُ إلى السلطةِ العظيمة للقضاءِ، والمنظومةِ العليا للعدل بتضررِ أصحابِ الحقوق..! والمسؤول الذي يقضي مصلحة هذا ويحابيه على حسابِ ذاك إنّما يرتكبُ ذنباً لا يغتفرُ، إذ هو أساسُ الفسادِ، ومبتدأ الخراب..! والمفتش الذي يُعيقُ مشروعاً صغيراً، أو يحطّم حلماً وليداً بتغليب العيوبِ على المحاسنِ هو المقترفُ جريرةً على وطنهِ لأنّه أعاقَ حركةَ التنميةِ فيه، وبطّأ سيرَ حِراكهِ الاقتصادي..!! وواضع القوانين الذي لم يترك في القوانين مرونةً وليونةً تتطلبها روحِ العصرِ فقد أصابَ الوطنَ في مقتل، إذ حكم عليه بالجمودِ، وقضى عليه بالركود..! وعلى غرارِ هؤلاءِ فإن كلّ من لا يُدرك المفاهيم العليا للوطنِ، لن يُحسنَ في عملهِ، ولن يقدّمَ خيراً لمؤسسته التي ينتمي إليها..!!
ومن المؤسفِ أن أغلبَ المؤسسات حكوميةً أو خاصّة لا تعنيها "الثقافة التنظيمية" التي هي أساسُ توجيهها، ومصدرُ الإجادةِ فيها، وقوامُ نمائها وازدهارها..! وهذا بلا شك أمرٌ مخلٌ ومعيبٌ خاصّةً للمؤسسات التي تتميّزُ بواجباتٍ وطنيةٍ عالية الأهداف، سامية المرامي، يُناطُ على كاهلها مصيرُ الوطنِ، ويُلقى على أكتافِ مسؤوليها شأنُ المواطنين. فالوزيرُ الذي لا يتمتّعُ بشخصيةِ قيادية لن يحرّكَ الوزارةِ التي يتولاّها خطوةً واحدةً لأنه لا يملكُ في ذاتهِ القدرة على ذلك فكيفَ به يقودُ مؤسسةً نحو اتجاهٍ تنموي..! والوزير الذي لا يصيخُ الآذانَ لناصح، ولا يُرهفُ الأسماعَ لصاحبِ رأي، ولا يُحسنُ الثقةَ في الآخرين، بل يرى نفسهُ هو الأصحُّ، والأفهمُ، فإنه لم يخدمَ وطنه القائمِ على الثقةِ المشتركةِ لا الثقةِ المتفرّدةِ التي تأتي من مصدرٍ واحد..! يقولُ جلالة السلطان متّعه الله بصحةٍ وعافية لكبار المسؤولين في الدولةِ عام 1978"لقد أولانا شعبنا منذ تولينا أموره ثقته الكاملة بنا، ومن خلال ثقته هذه وثق بمن اخترناه ونختاره لتولي المسؤولية لإدارة مصلحته العامة، ولذا فإن علينا وعليكم المحافظة على هذه الثقة وعدم التفريط بها" إنها إذن الثقة المتبادلة التي تقومُ عليها الحكومات، وتؤسس عليها مصائرُ الدول..! فانظر ماذا يقول الحكيم الصيني كونفوشيوس: على السياسة أن تؤمنِّ أشياء ثلاثة: لقمة العيش الكافية لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة النَّاس بحكامهم. فسألهُ "تسي كونغ": وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيها نضحي؟ أجاب كونفوشيوس: بالتجهيزات العسكرية.
فسأل(تسي): وإذا كان لابد لنا أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحي؟ أجاب كونفوشيوس: في هذه الحالة نستغني عن القوت، لأنَّ الموت كان دائماً هو مصير النَّاس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساسٍ للدولة.!
إنَّ ضياعَ المفاهيم العليا يحرمُ الوطنَ من قيمته الحقيقة كوطنٍ له كيانه المتفرّد، وصرحهِ المتميّز، فلا يكون المشهدِ في حقيقته إلاّ كما وصفه غاندي بالقول "كثيرون حول السلطةِ، قليلون حول الوطن"..!
المفاهيم العليا هي النظر إلى المصلحةِ السامية للوطن، وبناءً على ذلك يؤسس الارتقاءُ بالوطن في كل عملٍ، وسلوكٍ وفكر ..! فإنّه من بابِ التشدّقِ والنفاقِ أن يدّعي أحدٌ ما نظرته نحو المصلحةِ العليا للوطن وهو متناقضُ الأهداف، مزدوجُ المصالح..!
المفاهيم العليا هي السواعدُ الفتيّة التي لا تعزقُ أرضاً، ولا ترفعُ حملاً، ولا تشقُّ قناةً، ولا تبني جسراً، ولا تعبّدُ شارعاً، ولا تُعلي صرحاً، إلاّ والوطن على جلالهِ وهيبته نصبَ عينيها..
المفاهيم العليا هي المبادئ السامية التي لا تقيمُ عدلاً، ولا تصلحُ إعوجاجاً، ولا تصححُّ مساراً، ولا تحفظُ تاريخاً، ولا تصونُ منجزاً إلا والوطنُ شامخاً في بهائها أمام ناظريها ..
المفاهيم العليا هي النفوس السخيّة التي لا تتطوّعُ لجهدٍ، ولا تخدمُ بشراً، ولا تقدّمُ إحساناً، ولا تبسطُ ظلاً، ولا تُربتُ كفّاً إلا والوطنُ على صفائهِ، وسخائه ماثلٌ أمامها ..
المفاهيم العليا هي العناصر التي ينبعثُ منها الرُّقي، ويصدرُ منها السُّمو، وينحدرُ منها الإخلاص، ويقومُ عليها الجهد، وتؤسس عليها النهضات، وتسودُ بها الحضارات، وتهنأُ بها الشعوب ..
فإن لم تدرك الأوطان والشعوب هذه المفاهيم العليا فإنها ستنحدرُ إلى المفاهيم الضيّقة، حينها ستجدُ الأنانيات وقد تفشّت، والمحسوبيات وقد عمّت، والفردية وقد طغت، والفسادُ وقد استشرى، والحسد وقد توغّل، والحقد وقد عم..!
فاعلم أنَّ الأوطان والشعوب إن انحدرت إلى هذه المستويات فلن تعرفَ طريقها إلى التقدم لأن الدوافع الأصيلة قد فُقدت، والموجّهات المحرّكة قد خبت .. ولا أملَ حينها إلاّ أن تستعاد المفاهيم العليا – إن أمكنَ ذلك حينئذٍ- لكي تنقذها من الفوضى البشرية، والأطماع الآدمية التي طوّحت بالوطن وأردته في مجاهل الخسران..!!